نشر موقع «صدى كارنيجى» مقالا للكاتب محمد السمهورى تناول فيه قرار الحكومة الإسرائيلية باقتطاع جزء من عائدات التخليص وتأثير ذلك على الاقتصاد الفلسطينى ومحدودية الخيارات المتاحة للسلطة الفلسطينية كى تتمكن من إدارة هذه الأزمة.
تواجه السلطة الفلسطينية راهنا أزمة مالية خانقة. ففى 17 فبراير الماضى، قررت الحكومة الإسرائيلية الامتناع عن صرف 138 مليون دولار من الأموال الضريبية والجمركية الفلسطينية، المعروفة بعائدات التخليص، والتى تجمعها إسرائيل بالنيابة عن السلطة الفلسطينية وتحولها شهريا إلى الصناديق الفلسطينية وفق مندرجات الاتفاق الاقتصادى الموقَع بين الطرفَين فى العام 1994، والذى يُشار إليه عادة ببروتوكول باريس.
القرار القاضى باقتطاع جزء من عائدات التخليص أقره الكنيست الإسرائيلى فى 27 يونيو 2018، والمبلغ المقتطَع يوازى الدفعات النقدية التى تُسددها السلطة الفلسطينية إلى عوائل «الشهداء والأسرى» الفلسطينيين، وقدرها نحو 11.5 مليون دولار فى الشهر وفقا للتقديرات الإسرائيلية. وقد ردت السلطة الفلسطينية برفضها تسلُم عائدات التخليص ما لم تعدل إسرائيل عن قرارها، غير أن الأخيرة لم تُبدل موقفها، ما أطلق شرارة الأزمة المالية التى تعانى منها السلطة الفلسطينية راهنا.
تُشكل عائدات التخليص، التى تُقدَر بـ2.4 مليارَى دولار سنويا (أو نحو 15 فى المئة من إجمالى الناتج المحلي)، العمود الفقرى لموازنة السلطة الفلسطينية. فهى تؤمن نسبة 65 فى المائة من مجموع إيرادات السلطة الفلسطينية، وتغطى أكثر من نصف نفقاتها. ونتيجة لهذا الانقباض المفاجئ فى السيولة، لم تتمكن السلطة الفلسطينية من تسديد رواتب موظفى الخدمة المدنية والشرطة كاملة، والتى قُدِرَت بـ150 مليون دولار فى الشهر فى العام 2018، ولم تُسدد سوى 60 فى المائة فقط من هذه الرواتب منذ فبراير الماضى. ومن التداعيات الأشد خطورة والأبعد مدى لهذا التراجع الحاد فى عائدات السلطة الفلسطينية، تأثيره على قدرتها على تأمين الخدمات الأساسية، وعلى حجم الفجوة التمويلية للسلطة الفلسطينية (أى عجز الموازنة بعد التمويل الخارجى)، والتى قد تتخطى، وفقا لتقرير صادر عن البنك الدولى فى أبريل 2019، مليار دولار بحلول أواخر العام 2019 (أو 6.5 فى المائة من إجمالى الناتج المحلى).
بغض النظر عن المبالغ التى تقتطعها إسرائيل من عائدات التخليص، تلوح الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية فى الأفق منذ بضع سنوات. فالتقارير الدورية الصادرة عن البنك الدولى وصندوق النقد الدولى حول أوضاع الاقتصاد الفلسطينى تحذر من أزمنة مالية عصيبة فى حال عدم المبادرة عاجلا إلى اتخاذ إجراءات طارئة للتخفيف من حدة الأزمة. وقد اشتملت التوصيات الصادرة عن هاتَين المؤسستين على توجيه دعوات إلى السلطة الفلسطينية لمواصلة العمل بالإجراءات الآيلة إلى ضبط أوضاع المالية العامة بغية الحد من العجز المالى؛ وإلى المجتمع الدولى لزيادة دعمه لموازنة السلطة الفلسطينية؛ وإلى إسرائيل للتخفيف من قبضة سياساتها وممارساتها التقييدية التى تُحكم الخناق على الاقتصاد الفلسطينى. يُشار إلى أن التقييم الذى يجريه البنك الدولى حول تنفيذ هذه التوصيات، يكشف أن مستوى التقدم فى هذا الإطار يبقى ضئيلا باستمرار.
***
وتزداد الأزمة المالية الفلسطينية استفحالا بسبب محدودية الخيارات المتاحة للسلطة فى السياسات كى تتمكن من إدارة هذه الأزمة. فى الماضى، عند مواجهة أزمات مالية، كانت السلطة الفلسطينية تلجأ تقليديا إلى ثلاثة إجراءات فى السياسات: مناشدة المانحين والدول العربية تقديم دعم إضافى لموازنتها، وتطبيق إجراءات تقشفية، وزيادة الاستدانة الداخلية. لكن هذه المرة، أمام السلطة هامشٌ محدود جدا للتحرك على الجبهات الثلاث.
لقد تراجع الدعم المباشر الذى يُقدمه المانحون لموازنة السلطة الفلسطينية بنسبة وصلت إلى 58 فى المئة على امتداد الأعوام الخمسة الماضية ــ من 1.24 مليار دولار فى العام 2013 إلى516 مليون دولار فقط فى العام 2018. وفى الاجتماع الربيعى السنوى للجنة الارتباط الخاصة (مجموعة الدول المانحة الدولية من أجل فلسطين) فى بروكسل فى 30 أبريل، أشار المانحون إلى أنه «ليس بمقدورهم تغطية الفجوة المالية الناجمة» عن أزمة عائدات التخليص. واقترحوا بدلا من ذلك إجراء وساطة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية للمساعدة فى نزع فتيل المأزق. كما أن سجل المساعدات المالية العربية للسلطة الفلسطينية فى سياق ما يُعرَف بـ«شبكة الأمان المالية العربية» ــ وهى آليةٌ أُنشئت خلال اجتماع جامعة الدول العربية فى مارس 2012 لمنح السلطة الفلسطينية 100 مليون دولار شهريا ردا على اللجوء الإسرائيلى المتكرر إلى حجب عائدات التخليص ــ مخيِبٌ للآمال إلى حد كبير. والتعهد الذى قطعته جامعة الدول العربية فى 31 مارس بتجديد التزامها بشبكة الأمان لن يتجسد على الأرجح بصورة كاملة على أرض الواقع.
هذا فضلا عن أن قدرة السلطة الفلسطينية على الاستمرار فى اتخاذ إجراءات مالية أشد صرامة، قد بلغت أقصى حدودها الآمنة. فالسلطة الفلسطينية تُطبق، منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، برنامجا طموحا جدا للإصلاح المالى مدعوما من صندوق النقد الدولى بهدف تحقيق الاستدامة المالية. نتيجة لذلك، انخفض عجز الموازنة من 28 فى المئة من إجمالى الناتج المحلى فى العام 2007 إلى 8.4 فى المئة فى العام 2018. وفى حال اتخاذ مزيد من التدابير على هذا الصعيد، فسوف تترتب عنها أكلافٌ معينة. والسبب هو أنه فى الاقتصاد الفلسطينى حيث الاستهلاك العام والخاص هو المحرك الأساسى للنمو، سوف تبلغ الإجراءات التقشفية المتواصلة نقطة تبدأ معها بالتأثير سلبا فى النمو الاقتصادى الضعيف أصلا، والذى يتوقع صندوق النقد الدولى أن يبلغ 1.5 فى المئة فى العام 2019، وتتسبب لاحقا بمزيد من الارتفاع فى معدلات البطالة والفقر، فضلا عن تسجيل تراجع إضافى فى مستوى الدخل الفردى.
***
أخيرا، لم تعد الاستدانة الداخلية خيارا قابلا للحياة. ففى منتصف العام 2018، بلغ مجموع الديون الداخلية للسلطة الفلسطينية 4.25 مليارات دولار، 1.6 مليار دولار منها هى للمصارف المحلية، و2.65 مليارَى دولار فى شكل متأخرات متراكمة للقطاع الخاص وهيئة التقاعد الفلسطينية. غير أن الاستدانة من المصارف تقترب سريعا من الحدود التى وضعتها سلطة النقد الفلسطينية، فى حين أن المتأخرات المتراكمة المتواصلة للقطاع الخاص سوف تؤثر سلبا فى القدرة على سداد القروض، بما يؤدى إلى تمدد الأزمة المالية الراهنة إلى القطاع المصرفى. كما أن المصارف تنكشف بصورة متزايدة على المخاطر الناجمة عن ديون السلطة الفلسطينية والقروض الاستهلاكية لموظفى السلطة الفلسطينية الذين تأثرت رواتبهم بالأزمة الراهنة، والذين تبلغ قيمة قروضهم المصرفية راهنا 1.5 مليار دولار.
بعدما أصبحت الخيارات التقليدية فى السياسات معدومة عمليا أو محدودة جدا، ليس واضحا كيف ستشق السلطة الفلسطينية طريقها للخروج من الأزمة الراهنة إذا تمسكت كل من إسرائيل والسلطة بموقفهما بشأن الاقتطاعات من عائدات التخليص. إنما من الواضح أنه حتى لو أفرجت إسرائيل عن الأموال المحتجزة، واستأنفت تحويل عائدات التخليص بكاملها وبصورة منتظمة، لن تؤدى العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل الأزمة إلى معالجة الصعوبات المالية المستمرة التى تتخبط فيها السلطة الفلسطينية والتى يُحذر منها صندوق النقد الدولى والبنك الدولى على امتداد السنوات الثلاث الماضية.
والسبب هو أن المتاعب المالية للسلطة الفلسطينية متجذرة عميقا فى مناخ سياسى غير مؤاتٍ على الإطلاق؛ فالعجوزات المستمرة فى الموازنة هى مجرد نتيجة متفرعة عن هذا المناخ. وعلى وجه التحديد، تعمل السلطة الفلسطينية، منذ إنشائها قبل 25 عاما، فى ظل احتلالٍ عسكرى يمارس سيطرة تامة على مختلف جوانب الاقتصاد الفلسطينى. فى هذا السياق، تتسبب شبكة معقدة من السياسات والممارسات الإسرائيلية بتعطيل حرية تنقل الفلسطينيين والبضائع الفلسطينية؛ وفرض قيود على الوصول الحر إلى الموارد الطبيعية الوطنية، لا سيما الأراضى والمياه؛ والحد من قدرة الفلسطينيين على الوصول بحرية إلى الأسواق الإقليمية والدولية.
لقد أدت ظروف النزاع المستمرة، وانعدام الاستقرار السياسى المتفاقم، وفى بعض الأحيان تجدُد جولات العنف، إلى اشتداد درجة الالتباس والمخاطر فى هذه الأجواء المتقلبة أصلا، ما يُثنى القطاع الخاص الفلسطينى عن أداء دوره الحيوى كمحرِك للنمو الاقتصادى. وقد أسفرت كل هذه المعطيات عن اقتصادٍ ضعيف يعجز بصورة متزايدة عن توليد موارد كافية لتمويل موازنته الوطنية، ويُعوِل، بصورة مزمنة، على المساعدات الدولية لتأمين استمراريته المالية.
إذا لم يطرأ تغيير جذرى على هذا السياق ــ وهو احتمالٌ مستبعد جدا فى المستقبل القريب نظرا إلى الغياب التام للمفاوضات السياسية المُجدية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية منذ منتصف العام 2014 ــ سوف تستمر المتاعب المادية الفلسطينية فى الاستفحال، ما يجعل السلطة الفلسطينية أقرب من أى وقت مضى إلى حافة الانهيار المالى، مع ما يترتب عن ذلك من تبعات غير متوقعة.
النص الأصلي