كم هو متشابك هذا الاقتصاد العالمى فى عصر (ما قبل كورونا)، عصر توسع الرأسمالية العالمية بقيادتها الدولية الغربية، بمركزها الأمريكى، على الصعيد الكوكبى، فيما يطلق عليه «العولمة». إنه عالم وعصر حركة التدويل المتعاظمة على نحو غير مسبوق. عالم وعصر المال الدوار الهائم بغير انقطاع على مدى الساعة، كما يقولون، سعيا إلى تعظيم الأرباح وفق القانون المعهود للنظام الرأسمالى فيما يقال له بالإنجليزية Profit Maximization. ومع الربح نزاع ثم صراع، ومن بعده حرب وحروب. ذلك ديدن الرأسمالية منذ نشأتها الأولى اعتبارا من القرن السادس عشر، ومن ثم تحولها إلى نظام دولى أوروبى، فنظام عالمى بانزياحها العنيف، عنفا اعتباطيا ثم منظما، على الصعيد العالمى وراء البحار باتجاه قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا وكذلك الأوقيانوسيا (أستراليا ونيوزيلندا)، من الهند والصين إلى مصر والمنطقة العربية إجمالا، مضت الرأسمالية العالمية تشيد منظومتها الاقتصادية ذات القوة كلية القدرة، عبر مئات السنين، من «التجارة البعيدة» فى عصر الرأسمالية الزراعية والتجارية الناشئة، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلى الرأسمالية الصناعية المبكرة فالمتقدمة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ممتزجة فى طورها المتقدم بالرأسمالية المالية منذ آخر القرن التاسع عشر حتى أعقاب الحرب العالمية الثانية فى منتصف القرن العشرين، تلك الرأسمالية المالية، رأسمالية المصارف الكبرى المشتغلة على نطاق كونى، بالإقراض الربوى، هى التى أطلق عليها «لينين» مسمى «الإمبريالية»؛ وهى التى كانت سمة الاستعمار الكلاسيكى، ومن أبرز محطاته التاريخية فى القرن التاسع عشر استعمار مصر بالرأسمال والديون وتأسيس الشركات.
وانظر إلى قصة إنشاء السويس ثم احتلال مصر تدريجيا فى عصر الخديوى إسماعيل والخديوى توفيق، تحت وطأة أزمة الديون، وصولا إلى فرض الحماية البريطانية عليها، وسلخها من رابطتها الرسمية مع الدولة العثمانية، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، إلى بقية التاريخ المعروف، ولم ينقذ مصر من مصيرها كمستعمرة ثم شبه مستعمرة بريطانية سوى قيام ثورة 23 يوليو 1952، كما هو معروف أيضا.
***
مع ما يمكن تسميته بالرأسمالية التكنولوجية، خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، انطلق التوسع الرأسمالى، على النطاق الكوكبى، ليتكيف مع «عالم ما بعد الحرب»؛ حيث انبثق مكونان آخران: المنظومة الاشتراكية السوفيتية، ومجموعة البلدان المستقلة حديثا فى القارات الثلاثة لآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ذات الزعامات التاريخية الناهضة، على غرار جواهر لال نهرو وجمال عبدالناصر وأحمد سوكارنو وكوامى نكروما. ومنذ أول السبعينيات أخذت تعتمل متغيرات فى غير صالح معسكر التحرر الوطنى ذاك والمنظومة السوفيتية، فى نفس الوقت الذى أخذت فيه المنظومة الرأسمالية العالمية تستغل قوة التقدم التكنولوجى، وتوظف قوة الدولة الاجتماعية وفق المذهب الكينزى، لتحقيق القوة بمعناه الشامل وتذهب بها، فى نفس الوقت، باتجاه التدخل العسكرى خارج الحدود والحرب. ثم أن هذه المنظومة الرأسمالية الغربية بقيادتها الأمريكية أخذت تتحول منذ منتصف السبعينات بعيدا عن «الكينزية» باتجاه «الليبرالية الجديدة»ــ النسخة الرديئة من الرأسمالية ــ وتنشرها فى عموم البلدان النامية، تحت مسمى «الإصلاحات» الموصى بها من صندوق النقد الدولى وقرينه البنك الدولى. فى نفس الوقت، أخذت مسيرة التداعى السوفيتى تفعل فعلها، ومعها تراجع الصين ناحية الفوضى بعيد وفاة ماو تسى تونج، وقبل وفاته. ويصبح المسرح مهيأ للانهيار التدريجى للسوفييت وخاصة منذ أواخر الستينيات، وكذا لانزياح الصينيين ــ المتنازعين مع السوفييت منذ 1957 برغم وحدة المذهب الإيديولوجى ــ باتجاه الوقوع فى (حجر) الأمريكيين بقيادة (نيكسون ــ كيسنجر) فى 1972 ــ 1973، حينذاك، تفاعلت قوة التكنولوجيا فى الغرب الرأسمالى، مع قوة آلة العنف العسكرى والحرب، لتصنع واقع الزعامة على الصعيد العالمى، فى خضم التآكل السوفيتى ــ الصينى، وتصاعد النفوذ الإسرائيلى فى أحد أهم مسارح الصراع القطبى على الصعيد العالمى، المسرح العربى والشرق الأوسطى، بعد حرب أكتوبر 1973، ليتكون من كل ذلك نسيج للقوة جديد. وبالسقوط (الرسمى) للاتحاد السوفيتى عام 1990، والتحول الجذرى، ولكن التدريجى، للصين باتجاه التحالف الفعلى مع الغرب، تهيأ الظرف «الجيوبوليتيكى» لتقدم الولايات المتحدة الأمريكية ولتحتل موقع كرسيها على العرش، بوصفها القوة العظمى الوحيدةLonely super Power.
وعن طريق صيرورة النظام الرأسمالى النظام الوحيد على سدة القيادة للاقتصاد العالمى، تجارة ومالا واستثمارات وغير ذلك، وصيرورة الولايات المتحدة، قوة عظمى وحيدة، فى ظل اختفاء السوفييت، وفى ظل خاص لاستمالة الصين حتى تحولت من عدو سابق جدا ومن خصم بعد ذلك إلى شريك استراتيجى تضخ نحوه «الاستثمارات الأجنبية المباشرة» فى شطرها الأعظم على الصعيد العالمى، وتصوب ناحيتها أعين الشركات العملاقة عابرة الجنسيات، تنقل إليها من عقر ديار أمريكا وأوروبا مرافقها الإنتاجية والتكنولوجية، ثم لتصير قوة تصديرية عظمى باتجاه الغرب ــ القديم الجديد، وتحل، بمعنى معين، محل شريكه وحليفه العتيد: اليابان.
هكذا، أصبح المسرح الاقتصادى ــ السياسى العالمى جاهزا تماما للتوسع غير المسبوق فى التجارة متعددة الاتجاهات، والاستثمارات المعقدة تكنولوجيا، عبر مسار لم يكن سابقا يخطر على بال: مسار الصين ــ أمريكا، فيما قيل له من جانب البعض فى لحظة ما: China America.
***
امتدت منذئذ سلاسل للعرض السلعى والخدمى بين أمريكا وآسيا وأوروبا، أو «سلاسل الإمداد» فى تعبير آخر؛ ولكن آسيا هى فى المركز والمنتصف، آسيا الشرقية بالتحديد، وقلب آسيا الشرقية الصين، ومن حول الصين ترتفع رءوس أبرزها اليابان، وحواليها تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها عديد. وهذه آسيا تحتكر لنفسها الشطر الأعظم من حركة المبادلات التجارية والمالية وتدفقات «الرساميل» والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة. ومع توسع السلاسل تنتقل التكنولوجيا، ويرتفع معدل النمو، فى تلك المناطق والبلدان من آسيا الشرقية دون غيرها حصرا إلى حد بعيد. فكأن السلاسل تحرر البعض من القيود، بينما تسجن البعض الآخر وراء أسوار تحجب الاستثمار ومنافع التجارة وتدفقات التكنولوجيا، ومع كل هذا: ضعف النمو.
إنه اقتصاد جديد إذن، ولكنه لم يوجد من العدم، وإنما سبقه تاريخ طويل رعته الرأسمالية العالمية كما أشرنا على امتداد قرون وعقود، لتعمم اقتصاد المبادلة، وتطور من خلالها «مراكز» Centers بينما يتكرس التخلف النسبى للأطراف Peripheries، بعيدة كانت أو قريبة. هذه إذن نظرية «المركز والمحيط» التى أقامت بنيانها كوكبة من مدرسة فكرية نعتت بمدرسة «التبعية» ومعها «المركز والأطراف» و«التبادل غير المتكافئ»، من قبيل أعلام فى مقدمهم راءول بريبيش وإيمانويل والرشتاين وسمير أمين، ولفيف قليل. ولم لا؟ وقد حدثت الرأسمالية عتادها المادى والمعنوى بالتكنولوجيا والابتكارات و«البحث والتطوير»؛ جددت نفسها كما قال فؤاد مرسى. فليس بمستغرب أن يستعاد تجدد الأفكار من جانب اليسار العالمى ليعيد عرض أطروحة «التشابك» الاقتصادى الدولى من مدخل «التطور غير المتكافئ» ذاته، الذى طالما تسيد ساحة الفكر التنموى الدولى كأطروحة قابلة لاختبار الصدق الأكيد.
فى هذا العالم الاقتصادى إذن، عالم الربح، ومن منطق الرأسمال، عبر منطلق الهيمنة الكونية، واللاتعادل، ترعرع عالم «الليبراليين الجدد» الذين لا يبالون فى سبيل تعظيم الأرباح بالبيئة أو الإصحاح البيئى، وبالمحيط الحيوى لعيش الإنسان، ولو تناوشت هذا الإنسان أخطار التغير المناخى، ونهشته مخاطر الأوبئة والمجاعات.
فى هذا المحيط المسموم، نبتت وكبرت ثم انتقلت فانتشرت، فيروسات «الإنفلونزا الآسيوية» و«إنفلونزا الطيور والخنازير» وعائلة الفيروسات التاجية من «سارس» إلى «كورونا»، فلماذا يكون العجب..؟ ولكن لا عجب هنالك؛ فمن فيروس الرأسمالية الرديئة، تولد جميع الفيروسات.