التفاؤل الذى ينتشر فى المنطقة العربية، وفى العالم كله تقريبا ــ عدا إسرائيل ــ بخطاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما، ينبغى ألا يكون سببا فى استجابة الدول العربية والإسلامية للضغط، وتقديم تنازلات سريعة ومجانية لإسرائيل.
قد يفترض البعض أن هذه التنازلات أصبحت واجبا أخلاقيا من باب كرم الوفادة، أو أنها ضرورية لمساعد الرجل فى معركته الآتية ــ لا محالة ــ مع اليمين الإسرائيلى وحلفائه وأصدقائه داخل الولايات المتحدة، وقد يرى آخرون أن هذه آخر فرصة للوصول إلى تسوية معقولة للصراع مع إسرائيل، وإذا ضاعت هذه الفرصة، وضاع معها أوباما نفسه، فلن تعود فرصة مماثلة قبل مرور أحقاب، ودهور، تذيقنا فيها إسرائيل الأمرين جميعا، ولذا فعلينا أن نجيبه إلى كل ما يطلب حتى لا تبقى أمام إسرائيل وأصدقائها ذريعة لعدم الاستجابة لجهود الرئيس الأمريكى وإدارته، ولكن التفكير بهذه الطريقة، والتصرف على أساسها سوف يكون كارثة، أقدح من كل كوارث التنازلات المجانية السابقة، لا لشىء إلا أن بقايا المقاومة، وعدم اعتراف أغلبية الدول العربية والإسلامية بإسرائيل، وإقامة علاقات طبيعية معها هما آخر ما لدينا من أوراق للضغط على إسرائيل للوصول إلى التسوية المعقولة.
صحيح أن الرئيس أوباما وصف مبادرة السلام العربية بأنها مجرد بداية، بمعنى أنها لا تكفى، وينبغى تعديلها، وصحيح أنه حث الدول العربية والإسلامية فى خطاب جامعة القاهرة على اتخاذ خطوات عملية نحو تطبيع العلاقات مع إسرائىل، ولكنه طالب إسرائيل فى نفس اللحظة بالاعتراف بمعانات الفلسطينيين، وبأن الحل هو إقامة دولتين متجاورتين تعيشان فى سلام، وبوقف التوسع الاستيطانى، ولكن إسرائيل لم تسارع ولن تسارع إلى تلبية هذه المطالب، هكذا ودون مقابل، أو دون تفاوض، خصوصا الإقرار بمبدأ الدولة الفلسطينية كاملة السيادة الذى ينص برنامج حكومة إسرائيل الحالية على رفضه، وقد كان واجبا على أوباما أيضا من وجهة نظره أن يطالب إسرائيل بقبول المبادرة العربية رسميا من حيث المبدأ، ولو كبداية، ولكنه لم يفعل فى الوقت الذى لا تزال فيه هذه المبادرة منذ إعلانها قبل خمس سنوات مبادرة من طرف واحد.
إذن فلتكن البداية ودون تقديم أى تنازل عربى وبعد التزام حكومة بنيامين نتنياهو بوقف الاستيطان، الحصول على إعلان رسمى إسرائيلى بقبول المبادرة العربية، ولو مع بعض التحفظات التى تترك للتفاوض، وبعد ذلك يمكن النظر فى التعديلات المطلوبة إسرائيليا وأمريكيا، ومع أن موقفى الشخصى هو أن المبادرة العربية بصيغتها الحالية تكفى وزيادة لأنها تمثل الحد الأقصى أخلاقيا وقانونيا لما يمكن للعرب والمسلمين أن يقدموه من تنازلات، كما تمثل الحد الأدنى لما هو مطلوب من إسرائيل من تنازلات..
أقول ــ مع ذلك ــ فإن هذه المبادرة العربية نفسها واربت الباب لتعديلها بالتفاوض، وليس حين تحدثت عن حل متفق عليه لقضية حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى ديارهم طبقا لقرارات الأمم المتحدة، ومعنى «حل متفق عليه» هو عدم تطبيق هذا الحق تلقائيا، ولكن وفقا لما يتفق عليه الطرفان، ــ أى وفقا لما ستقبله إسرائيل فى نهاية المطاف ــ وبذلك ينفتح الباب الموارب على مصراعيه أمام استبدال «التعويض العادل» بحق العودة، لكن ينبغى ألا يحدث ذلك بإعلان عربى من جانب واحد، وإلا فإننا نكون قد وقعنا فى فخ التنازل المجانى أمام الميكروفونات، كما حدث من قبل كثيرا، وبذلك نكون قد تطوعنا لحل مشكلات الآخرين، خاصة مشكلة الحكومة الحالية فى إسرائيل، دون أن نحصل على أى شىء.
من هذه النقطة الأخيرة يتضح أن أفضل استراتيجية يمكن أن تتبناها الدول العربية، ومعها الدول الإسلامية، هو انتظار ما سوف تتمخض عنه التفاعلات داخل إسرائيل، وداخل الولايات المتحدة الأمريكية، وبين إسرائيل واليهود الأمريكيين من ناحية، وبين إسرائيل والإدارة الأمريكية من ناحية أخرى، ولن تكون فترة الانتظار هذه طويلة على الأرجح، لأن التفاعلات داخل إسرائيل بدأت بالفعل، أو ظهرت مقدماتها حتى من قبل أن يلقى أوباما خطابه «التاريخى» فى العاصمة المصرية، وعلى أغلب الظن فسوف تكون التفاعلات المتوقعة فى إسرائيل، وفى الولايات المتحدة أوسع مدى، وأعمق جذورا من أى تفاعلات جرت فى ظروف مشابهة سابقا، ويجب ألا ننسى هنا، بل يجب أن نتذكر دائما أن دخول البيت الأبيض بنفسه على خط المبادرات السياسية العسكرية الصراع العربى ــ الإسرائيلى كان ينتج دائما تغييرا سياسيا حقيقيا فى إسرائيل.
فعندما التزم الرئيس جورج بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر بدفع إسرائيل نحو مؤتمر مدريد، وعندما قرر بوش (الأب) وقف الضمانات الحكومية الأمريكية لتمويل بناء المستوطنات، كانت النتيجة المباشرة هى سقوط حكومة إسحق شامير الليكودية فى الانتخابات التالية، وعودة حزب العمل بزعامة إسحق رابين للقيادة المنفردة للحكومة الإسرائيلية لأول مرة منذ عام 1976 كذلك عندما وضع الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون ثقله الشخصى وراء الجهود الأمريكية فى الشرق الأوسط، سقطت حكومة بنيامين نتنياهو الأولى، بل تمردت عليه تقريبا كل مؤسسات الدولة الإسرائيلية من المحكمة العليا إلى المخابرات إلى الجيش قبل أن تسقط هذه الحكومة فى الكنيست ويضطر إلى الدعوة إلى انتخابات مبكرة أسفرت عن سقوطه، وعودة حزب العمل إلى السلطة بزعامة إيهود باراك.
ليس المهم فى الملاحظة السابقة هو عودة حزب العمل فى حد ذاتها، ولكن المهم هو أن المواجهة بين البيت الأبيض وأى حكومة إسرائيلية تنتهى بسقوط الأخيرة بإرادة الناخب الإسرائيلى والمعنى هنا هو أن الرأى العام الإسرائيلى، ومؤسسات صنعه، وبقية مؤسسات الدولة الإسرائيلية لا تحتمل مواجهة من هذا النوع وتسارع إلى تغيير الأوضاع استجابة للضغوط الأمريكية، ومع ذلك فقد أدى تغيير حكومة شارون بحكومة رابين إلى إحداث نقلة نوعية إيجابية تمثلت فى عملية أوسلو، وما تبعها من تطورات فجرى الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقامت سلطة وطنية فلسطينية منبثقة عن المنظمة على الأرض الفلسطينية بقيادة عرفات نفسه.
كذلك كان تغيير نتنياهو بباراك فى المرة السابقة سببا فى اقتراب الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى من هدف التسوية النهائية فى قمة كامب ديفيد الثانية مرة، وفى مفاوضات طابا التى سبقت سقوط حكومة باراك، وخروج كلينتون من البيت الأبيض مرة ثانية، إذن المساعدة الحقيقية التى يمكن للعرب تقديمها لأوباما، بل التى يجب عليهم تقديمها إليه هى عدم الهرولة لتقديم التنازلات حتى وإن كان هو الذى يطلبها وعليهم ألا يخجلوا من طلب ثمن كاف لكل تنازل، وعليهم أيضا ألا يستجيبوا لأى مغازلات، أو استدراجات إسرائيلية من وراء ظهر الرجل، وهذه التوصية الأخيرة موجهة بالدرجة الأولى إلى الفلسطينيين، لاسيما رجال الصف الثانى فى حركة فتح والسلطة الفلسطينية، وهى موجهة أيضا إلى الحكومة الأردنية بالدرجة نفسها من الإلحاح، ثم تأتى مصر والسعودية فى المرتبة التالية، لأن الصفقات الثنائية سيكون ضررها فى هذه الظروف أكثر من نفعها.
وإذا كان أوباما مختلفا عمن سبقوه من الرؤساء الأمريكيين، من التزم منهم بالسعى الجاد نحو التسوية العادلة فى الشرق الأوسط، ومن لم يلتزم منهم، فلا عيب ولا ضرر، من الانتفاع بدروس تجاربنا مع الجميع فى التعامل مع هذا الساكن الجديد المختلف للبيت الأبيض، ولنبدأ بالرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون الذى كان أول رئيس ينغمس فى دبلوماسية التسوية فى الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر، فقد بذل الرجل كثيرا من الوعود للأطراف العربية، والتى قدمت التنازل تلو التنازل لمساعدته، ولكنه لم يأخذ من إسرائيل الكثير، حتى من قبل أن تداهمه فضيحة ووترجيت وتطيح به، فاخترع وزير خارجيته هنرى كينسجر دبلوماسية الخطوة خطوة للتهرب من تنفيذ وعود الرئيس، أما فورد فإنه لم يستطع تنفيذ الكثير وسرعان ما عجز الرئيس التالى جيمى كارتر عن مواجهة مناحيم بيجين رئىس وزراء إسرائيل بما يثبت كذبه حين تنكر لالتزامه فى كامب ديفيد الأولى بوقف بناء المستوطنات إلى آخر الأمثلة التى ضاع فيها «حسن النية» نحو الرئيس الأمريكى أمام مراوغات إسرائيل، وتخاذل هذا الرئيس أو ذاك.