لا شك أن كل مصرى يتمتع بنزعة عزة وطنية قوية يستغرب منها العرب والأجانب على حد سواء. فحتى الأجيال التى تربت بعد عهد الرئيس عبدالناصر والتى أنتمى إليها تتمتع بهذه النزعة.
بل وحتى الأجيال التى هجرت مصر إلى الخارج مازالت تتمتع بهذه النزعة، ولا تتردد فى الحديث عن أمجاد هذا البلد وثقافته وحضارته وتاريخه ودفء أهله وخفة ظلهم التى تميزهم عن بقية شعوب المنطقة التى يعيشون فيها.
ولاشك أن المصرى الذى عاش تجربة «الغربة» وهم بالملايين ــ وأنا وأفراد عائلتى منهم ــ يتضاعف لديهم هذا الشعور بحب مصر والانتماء إليها. فتتملكنا راحة وترتسم على شفاهنا ابتسامة فى كل مرة تدخل فيها الطائرة الأجواء المصرية.
وهذه المشاعر منبعها ليس فقط رؤية الأهل والأصدقاء من الذين لايزالون يعيشون فى مصر ولكن أيضا لشعورنا بالامتنان لأن لنا وطنا نشعر بالرابط الذى يربطنا به مهما بعدنا عنه ومهما صغر سننا.
ولا شك وهى الثالثة والأخيرة فى هذا المقال أن كل من ترتسم على شفاهه هذه الابتسامة يدرك أن بقدر ما وراءها من الحب لهذا البلد فوراءها أسى وحسرة بل وحزن وإحباط.
فالحياة فى مصر أضحت صعبة وأصبحت أسباب الهجرة والخروج من الوطن تتعدد يوم بعد يوم. لفت نظرى إلى جملة هذه الأسباب صديق كان مجتمعا معنا فى المدينة الجامعية بباريس خلال شهر رمضان حيث نجتمع للإفطار معا حين سأل تلقائيا وبأسى «إذا كنا لما بنحب نتعالج كويس بنسافر بره، ولما بنحب نتعلم كويس بنسافر بره، ولما بنحب نكسب كويس بنسافر بره.. تبقى هى بلدنا ادتنا إيه؟».
وانقسم المستمعين للسؤال بين مؤيد ومعارض ولكن يعلم كل من هو موجود خارج مصر الآن أن هذا السؤال أتى على جرح عميق. فالمصرى مهما طالت حياته فى الخارج ومهما كانت هذه الحياة مريحة ماديا ومترفة، يشعر بالغربة.
الغربة إحساس صعب خصوصا فى المجتمعات الغربية التى لا تشاركنا أعيادنا وتقاليدنا ولا يشعر المرء أنه «واحد من أبناء هذا الوطن». فبعض المهاجرين المصريين يشعر بالامتنان تجاه البلاد والمجتمعات الغربية أو حتى العربية التى احتضنتهم ووفرت لهم فرص كان نقصها السبب فى خروجهم من مصر.
وبعضهم يفرح بالعيش فيها وينقطع اتصاله تدريجيا بمصر وينخرط فى مجتمعاتها. لكن أبدا لا يشعر المهاجر المصرى أنه من أبناء «هذا الوطن الفرنسى أو البريطانى أو الأمريكى أو حتى الخليجى». هذا الشعور بالغربة مزمن ومؤلم لأن لا علاج له على المدى القصير.
فطالب التعليم العالى أو العمل أو العلاج فى الخارج يدرك صعوبة وأحيانا استحالة وجود بديل مصرى لما يبحث عنه. بل ويدرك أصحاب الشهادات العليا الأجنبية فى معظم الأحيان أن المقابل المادى والمعنوى فى مصر لشهاداتهم والمستوى العلمى الذى يصلون إليه والغربة والكفاح لإثبات الذات والتفوق على أبناء البلد ليس فقط غير مناسب، بل وأحيانا غير موجود.
فمعظم طلبة الدراسات العليا المصريين فى الخارج فى مختلف مجالات العلوم الاجتماعية يطمحون إلى العمل فى مجال التدريس فى الجامعات الحكومية المصرية ونقل العلم الذى حصلوا عليه لآلاف الطلبة المصريين الذين لم يتسن لهم الحصول على نفس فرصة التعليم فى الخارج.
لكن فى مصر، وغيرها من بعض الدول العربية التى اقتدت بالنظام المصرى، المستوى الفكرى والعلمى لا يعتد به داخل الجامعة إلا إذا كان الشخص ممن تم تعيينهم منذ التخرج، وبناء ــ فقط ــ على الدرجات التى حصل عليها طوال سنوات الدراسة فى الجامعة. حتى بالنسبة لأولئك الذين تم تعيينهم فى الجامعة الحكومية، فإن المقابل المادى يجعل الحياة صعبة ويجعل تكوين أسرة بالنسبة للذكور من أساتذة الجامعة مستحيلا.
وإذا كان بعض أساتذة الجامعة ينجح بطريقة أو بأخرى فى تخطى عقبة الإحباط المادى، فإن عقبة الإحباط المعنوى تبقى وتظل أكثر إيلاما. ولمن لا يعرف ذلك، فإن اللائحة الداخلية للجامعة تقدس الهيراركية الجامدة.
على سبيل المثال، لا يستطيع أى مدرس شاب أن يطور المنهج الذى يدرسه أو أن يطور القسم الذى يعمل فيه إلا بإذن من أستاذ المادة ورئيس القسم والعميد وغيرهم من المستويات. وغالبا ما يسمع المدرس(ة) الشاب عبارة «انت فاكر نفسك مين؟».
فصغر السن وحداثة الدكتوراه وسرعة الحصول عليها من الخارج كلها عوامل تعيق القدرة على التطوير. ويكون رد الفعل من المدرس الشاب هو إما الاستقالة والعودة من حيث أمضى سنوات الدكتوراه أو الصبر والمثابرة والتحسين فى حدود المسموح والممكن.
أعتبر نموذج التعليم هذا معبر جدا عن الرسالة التى أود أن أبعث بها من خلال هذا المقال. فيؤلم أى مصرى أن تكون اليوم بعض جامعات دول الخليج العربية والجامعات الإيرانية فى مستوى علمى متقدم على الجامعات المصرية التى سبقتها فى النشأة بعقود بل وقرون.
أكثر إيلاما هو ألا يستطيع المصرى أن يفيد بلده إن هو أراد ذلك. وفى رأى، فإن مصر البلد أعطتنا الكثير ولا مجال لرد نافى على سؤال صديقى المحبط حول مائدة الإفطار الفرنسية.
فمصر أعطتنا الوطن الآمن والبيت الذى نعود إليه إذا ضاقت بنا الأرض بما رحبت وأعطتنا التاريخ والحضارة والأصل والاحترام الذى يستثيره ذكر الجنسية التى نحملها حول العالم. لكن للأسف كلها عناصر تختفى بسرعة أمام الإحباط الذى تولده الصعاب التى نواجهها فى أحضان الوطن. وأخشى أن يدفع هذا الإحباط إلى تزايد إجابات العقول الشابة على عنوان هذا المقال بعبارة «عندك حق».
باحثة مصرية بفرنسا