تابع الكثيرون العرض الذي قام به وزير التعليم في مؤتمر الشباب عن نظام التعليم الجديد والبعض راوده الأمل في تغيير طال انتظاره لنظام التعليم في مصر. وهناك بالفعل إيجابيات هامة فيما يتم عرضه وإن أتت معها تساؤلات كثيرة أيضا بل ومقلقة. وهناك من رأى ضمانات مبشرة بالنجاح في الخطط المطروحة ولكن عدد من العوامل يدفعنا للبحث عن ضمانات ومؤشرات مختلفة. فمثلا مما يشجع البعض على الثقة فيما يتم عرضه أن لفيفا من الخبراء الدوليين والمحليين والجهات الدولية الكبرى شاركوا في وضعه. ولا شك أن هذا يمكن أن يكون جانبا إيجابيا للغاية، ولكن كأحد المشاركين في الدعم الفني للخطة الاستراتيجية للتعليم ٢٠٠٧-إلى ٢٠١١ يمكنني أن أعدد الجهات والخبراء الدوليين والمحليين الذين شاركوا في الخطوات المختلفة لوضع تلك الخطة أيضا. والتي كانت تبشر بنقلة نوعية في التعليم المصري من: إصلاح شامل للمناهج وأساليب التدريس إلى تعظيم استخدام التكنولوجيا لتحقيق تعليم عالي الجودة وتحديث نظام الثانوية العامة. وأظن أنه يمكننا أن نتفق أن تلك الخطة لم تحقق النقلة النوعية المنشودة. وقد يكون ذلك له علاقة بما تم تداوله عن استياء بعض كبار الخبراء لعدم الأخذ بتوصياتهم من قبل صناع القرار الذين أصروا على إدراج عدد كبير من الأهداف غير الواقعية في الخطة. والخسارة بالطبع لمصر فهم أخذوا مستحقاتهم وأدوا واجبهم ورجعوا لبلادهم. ولكن إن كانت الاستعانة بالخبراء المختصين شيء إيجابي ومعتاد، فإن اللجوء للشركات التعليمية الدولية لبناء المناهج ووضع الامتحانات هو موضوع خلافي كبير وغير مسبوق في السياق المصري. ومن يبحث مثلا عن شركة "Pearson" التي ذكرها الوزير سيجد انتقادات واسعة لها، خاصة لدورها في صناعة ثقافة الامتحانات المستمرة التي تضع الطلاب تحت ضغوط نفسية كبيرة وتدفع المعلمين “للتدريس من أجل الامتحان”. لذا يجب أن نتروى كثيرا قبل أن نمضي في هذا الاتجاه ونفتح حوارا مجتمعيا حول تفاصيل الإصلاحات، فبناء التوافق ليس رفاهية وإنما هو من أهم الضمانات التي يجب أن نبحث عنها لتقدير فرص النجاح.
***
فإذا أردنا أن تنجح خطط التغيير هذه المرة فالضمانات لا علاقة لها بالاستعانة بالخبراء الأجانب والشركات الكبرى. الضمان الذي يجب أن نبحث عنه هو وضع أهداف واقعية وخطوات إجرائية محددة مبنية على تقديرات واضحة للموارد المطلوبة، وللمعوقات وكيفية تخطيها، وللأثر المتوقع وكيفية قياسه. والأهم من هذا كله وجود تمويل مضمون ومخصصات واضحة لكل بنود الخطة. والثابت من التجارب العالمية أن دعم المعلمين والمجتمع بشكل عام لإصلاح تعليمي كبير كهذا هو ضروري لضمان نجاحه واستمراريته. ولا يزال الحديث عن النظام الجديد حتى الآن يدور حول الرؤى الجميلة والأهداف الكبيرة ولا يتطرق في معظم الأحيان للمعوقات وكيفية تخطيها أو للموارد المطلوبة وكيفية توفيرها وسط غياب للحوار المجتمعي وما يبدو أنه تجاهل للمعلمين. ومجرد الإعلان عن صياغة “نظام تعليمي جديد” وإدخاله حيز التنفيذ في عدة أشهر هو في حد ذاته مدعاة للقلق الشديد. وكمثال فإن إنجلترا بدأت في التخطيط لتغيير مناهجها الوطنية في ٢٠١٠ وتضمنت هذه العملية مختلف المشاورات لمقترحات التطوير تم بناء عليها تعديل العديد من النقاط وتم البدء في الانتقال للمنهج الجديد في ٢٠١٤. ومع ذلك يجدر التنويه أنه كانت هناك انتقادات شديدة من أطراف مختصة أن الإصلاحات كانت سريعة ولم يتم التحضير لتطبيقها بتأني ولهذا تأخر إدخال بعض المناهج والامتحانات الجديدة إلى ٢٠١٦، وأن هذا في بلد لا يعاني ربع ما نعانيه من مشاكل هيكلية وفي حالة تجديد مناهجه وليس تغيير النظام التعليمي ككل.
ولاحظنا أن التأكيد على أن الامتحانات الجديدة ستقيس الفهم والمهارات وليس الحفظ وجد صدى لدى بعض من تابعوا العرض، ولكن إشكاليات التقويم في مصر أعقد من ذلك بكثير. ويجب علينا أن نناقش ونسأل عن كل تفاصيل نظام التقويم الجديد، وأبسطها لماذا يمر الطالب ب١٢ امتحان في الثانوية العامة وليس اثنان أو ثلاثة وكم سيتكلف ذلك وكيف سيتم إعداد المدارس والمعلمين له؟ أما ما لا نفهمه حقا فهو ربط تغيير طرق التقويم بالتابلت الذي سيتم توزيعه على الطلاب. وكما أوضحنا في مقال سابق فإن الدراسات المتاحة لا تؤيد مثل هذا الاستثمار المادي والبشري الضخم في التكنولوجيا كحل لمشاكل مصر الأساسية في الإتاحة والجودة وتكافؤ الفرص. ولا زال الحديث متمركزا على كيفية علاج إشكاليات التطبيق وكيف أننا سنقوي الشبكات ونوصل التابلتات بالإنترنت ونعد مراكز للصيانة ونوفر مئات المهندسين للدعم الفني، وسنكلف وزارة الداخلية بمتابعة محاولات بيع وشراء وسرقة التابلت، والمفترض أننا سنوفر الموارد اللازمة لتدريب آلاف المعلمين والإداريين ليتمكنوا من استخدام هذه التكنولوجيات بفعالية. ولا زلنا لا نجيب على السؤال الأساسي: لماذا نلجأ لكل هذا الاعتماد على التكنولوجيا في التعليم وأكثر الدول تقدما لا تلجأ لمثله وما هو مردوده المتوقع على مشاكلنا الأساسية؟
أما إذا كنا نضخ كل هذا الإنفاق على التابلت لكي نمنع الغش في امتحانات الثانوية العامة، كما بدا من بعض التصريحات الرسمية، فهو ثمن باهظ حقا وله بدائل أخرى له حتما. فحتى إذا أصبح الامتحان إلكترونيا مثل الامتحانات الدولية كالIGCSE فلا يوجد أي داعي لتسليم كل شخص في المنظومة جهاز إلكتروني، ولا تفعل ذلك أية دولة تتطبق مثل هذه الامتحانات. فيكفي أن يتم تسجيل الدخول عن طريق بيانات الطالب على جهاز كمبيوتر داخل لجنة مخصصة لهذه الامتحانات. ولا نفهم ما يقال عن توفير تكاليف الامتحانات والمكافآت والمراقبة، فالامتحانات المفترض أن عددها سيتضاعف ولم نسمع من قبل عن امتحان بلا تحقق من الهوية وملاحظة للممتحنين. وإذا كنا نزعم أو نظن أن أي من هذا قد يوقف أو يحد من الدروس الخصوصية، فلا أعرف علام نبني هذه المزاعم. فمجرد الانتقال للامتحانات الإلكترونية لا ينفي الدروس بأية حال والتابلت لا يمكن أن يستبدل المعلم مهما وضعنا عليه من محتوى علمي. ولا نفهم حقيقة ما يقال عن "التعلم الذاتي" الذي سيقضي على الدروس، إلا إذا كنا سنصبح الدولة الوحيدة في العالم التي تقول لطلابها: تفضلوا هذه هي المادة العلمية المتوفرة في العالم، تعلموا تعلما ذاتيا ونراكم في الامتحانات.
***
وأخيرا من الإيجابيات التي لفتت نظر البعض أن هناك اتجاه نحو المصارحة والاعتراف بأن الوضع القائم شديد السلبية. وفي هذا الإطار يتم التأكيد على أن بلدا كمصر لا يليق بها أن يكون مركزها الأخير بين دول العالم في التعليم. ولن نناقش هنا منهجية الدراسة التي تشير لمصر كأسوأ دولة في العالم، ولكن يجب علينا أن نقول بوضوح أن الكلام الذي يتم تداوله من قبيل أنه “ليس هناك أسوأ من المركز الأخير وماذا ستخسرون إذا وثقتم في الإصلاحات المعلنة” لا يستقيم. والرد عليه بسيط. سنخسر المال العام والوقت والجهد الذي لا يؤدي لأي تحسن ونكون قد أضعنا مواردنا ودمرنا أعصاب معلمينا وطلابنا وأهاليهم دون أن نتحرك خطوة إلى الأمام. وحتما بالإمكان أسوأ مما كان وإلا كيف وصلنا لمستوانا الحالي من سنة لأخرى؟ ونحسب أنه من الأفضل أن يكون الرد على تساؤلات الآباء والمعلمين والباحثين بحجج مقنعة ومعلومات دقيقة لا أن يقال لهم جربوا فليس لديكم أصلا ما تخسرونه.
باحثة متخصصة في مجال تطوير التعليم
الاقتباس
إذا أردنا أن تنجح خطط التغيير هذه المرة فالضمانات لا علاقة لها بالاستعانة بالخبراء الأجانب والشركات الكبرى. الضمان الذي يجب أن نبحث عنه هو وضع أهداف واقعية وخطوات إجرائية محددة مبنية على تقديرات واضحة للموارد المطلوبة، وللمعوقات وكيفية تخطيها، وللأثر المتوقع وكيفية قياسه