«كان نفسى أدخل ابنى المدرسة، سامحنى يا سيف يا ابنى الصغير أول سنة السنة دى كان نفسى أدخله أول سنة المدرسة، أجيب لبس المدرسة زى اخواته مش مهم لبس العيد ما كده مش كل عيد لبس علشان الظروف يا بنى لكن المدرسة معلشى لو ما قدرتش والموت خدنى منك، سامحنى يا يوسف ابنى الكبير خامسة ابتدائى لو ما قدرتش المرة دى كمان مفيش كورة ولا نادى. كان نفسه يطلع دكتور وياسين ابنى رابعة ابتدائى أكيد لو الموت سبقنى أكيد اخواتى فى المعهد هيسألوا عليه فى مدرسة ابن خلدون معلش يا أمى وأبى أنا الكبيرة بس غصب عنى أكيد ربنا موجود معاكم من بعدى.. شكرا لكم».
كانت تلك كلمات مس هدى ممرضة العمليات بمعهد القلب القومى الأخيرة التى كتبتها كأنما تنعى ذاتها قبل أن يزورها ملاك الموت الذى يبدو أنه يتمهل ليطوف بسريرها فى عزل مستشفى المطرية قبل أن يربت كتفها برفق طالبا منها أن تستعد للرحيل برفقته. رحلت مس هدى إثر إصابتها بفيروس كوفيد ـ ١٩ تاركة وراءها ثلاثة أطفال فى مهب الريح عبرت عن قلقها بشأنهم فى تلك الكلمات التى أبكت مصر فى هذا الصباح القاتم وتركت فى نفوسنا نحن زملاءها فى معهد القلب القومى جرحا مؤلما عميقا لا أظن يتوقف عن النزف قريبا.
حينما كشف الفيروس اللعين عن وجه قبيح فأصاب منا ما أصاب بعدواه ونال من أرواحنا فغيب منا عائلة معهد القلب القومى ثلاثة من أطيب عناصر الإنسانية: يسرى كامل ومحمد فريد الجندى ثم هدى تصدت له قوة إنسانية عظيمة لتواجهه فى بسالة وتصد عنا أذاه. الواقع أن ما يحدث الآن فى معهد القلب القومى من مساندة وتكافل ودعم إنسانى بين البشر يبدو جليا فى صورة فريدة تعادل فى جمالها مد الشر والدمار الذى ألحقه بنا فيروس كوفيد ــ ١٩. كأنما أراد سبحانه أن يكشف عن مواطن الإنسانية فى نفوس البشر بعدما قارب الإنسان أن يفقد ثقته بنفسه.
تحول معهد القلب القومى إلى خلية واحدة تدافع بكل ما تملك من قدرة عن كل فرد فيها دون تمييز أو تفرقة. لم يتوقف العمل لتقديم الخدمة الطبية المتخصصة للمرضى إلى جانب متابعة كل الحالات التى أصابها الفيروس من الأطقم الطبية وتوفير كل ألوان الرعاية لها من علاج ودعم مادى ومعنوى بجهود ذاتية خالصة مخلصة.
لاشك أن الروح الباسلة الشجاعة المسئولة التى واجه بها كل أفراد عائلة معهد القلب القومى معركتهم مع جائحة كوفيد ـ ١٩ تظل مصدر فخر دائم لكل العاملين به على مر الأيام.
يدفعنى هذا الشعور النبيل القوى اليوم للجهر بما أظنه حقا لنا نحن مقدمى الخدمة الطبية بعد أن أطلقت علينا الدولة اسم الجيش الأبيض: لا يجب أن يظل الأمر قاصرا على المكافآت أو المعاشات الاستثنائية إنما نحن نطمح إلى معاملة مقدمى الخدمة الطبية فى وطننا معاملة من يدافعون عن أرض وكرامة البلاد. نحن أيضا ندافع بكل ما نملك من علم عن أرواح مواطنينا وكان لنا من الجسارة أن نقدم أرواحنا ونحن نتقدم الصفوف للدفاع عن سلامة الأمة.
تقول الأغنية التى تصدرت المشهد فى تحية الجيش الأبيض: «أشكرك من كل قلبى ياللى مش مستنى شكر». بالفعل نحن لا نتحدث عن جميل يستحق الرد أو الشكر بل نتحدث عن واجب أديناه ببسالة تماثل بسالة جنودنا.. لذا فنحن نتحدث عن حق مماثل، لنا الشرف أيضا أن نكون من خير أجناد الأرض. رحم الله شهداءنا من أطقم مصر الطبية وعظم أجرهم وسلاما لأرواحكم: يسرى كامل ومحمد فريد الجندى ومس هدى أم سيف ويوسف وياسين.