جاءنى الصوت بنبرة حادة ومهددة/ فعلا، لازم تحمد ربنا على أنك بتنام فى البيت أو أنك لسه بتنام أصلا/ اللى زيك فى بلاد تانيه أنت عارفها كويس فى معتقلات أو سجون أو ما بقوش على وش الدنيا خالص/ كفايه بقى كده.
تعرفت فورا على الصوت الذى لم أتمكن من رؤية صاحبه/ كان للأستاذ محمد البنا رحمه الله/ أستاذ اللغة العربية الذى تعلمت منه جمالها وبلاغتها وقواعدها فى مرحلة الدراسة الثانوية/ كان دائم الشكوى من تردى أوضاع البلاد ومحدودية معارف الطلاب وضعف اجتهادهم، ودائم المزج فى حصصه بين المقرر التدريسى وبين تناول القضايا العامة وفى الحالتين لم يكن يقبل المعارضة أو الكثير من الأسئلة/ كان يشرح ويعلم ويتحدث وفى يده اليمنى قلم «باركر» له لون أزرق داكن يستخدمه فى الإشارة إلى «الضحية» حين يوجه هو أسئلته إلينا أو يعبر عن استيائه من «جهلنا» أو يمتدح النطق السليم أو الإعراب السليم حين «يفتح الله» على طالبة أو طالب من بيننا ويغيب الخوف من قلم الأستاذ البنا والتلعثم عند الحديث فى حضرته.
إزى حضرتك يا أستاذ محمد/ الحمد لله على كل شىء/ هو حضرتك بتتفرج على التليفزيون دلوقتى؟/ أنا لسه فاكر رأيك فيه، تضييع وقت إلا نشرات الأخبار/ وبعدين دى أول مرة تكلمنى بالعامية، لغة الشارع زى ما كنت بتقولنا.
حمزاوى، كل ده مش شغلك/ أنا بأقولك، لازم تحمد ربنا على أنك بتنام فى البيت أو أنك لسه بتنام أصلا/ اللى زيك فى بلاد تانيه أنت عارفها كويس فى معتقلات أو سجون أو ما بقوش على وش الدنيا خالص/ كفايه بقى كده.
دون أن أنطق بكلمة، تعجبت من أن الأستاذ البنا أعاد على كلماته وجمله دون إضافة أو حذف/ أستاذ اللغة العربية، العاشق لتنويع المفردات ولتوظيف أدوات اللغة للإبهار والإقناع ولاحتكار الحقيقة له وحده، يكرر وبرتابة فى الصوت ذات الكلمات والجمل وكأنه يقرأ نصا كتب له/ تحركت بعيدا عن صوت «الأستاذ» الذى كان يأتى فى فراغ ليس له معالم مكانية أو أشكال أو ألوان/ تحركت خشية أن يكرر كلماته وجمله للمرة الثالثة، ومدركا أنه لم ينتظر منى شرحا «يا أستاذ محمد، حقى أن أعبر عن رأيى بحرية ودون تهديد بالقمع. حقى أن أدافع عن الديمقراطية والحريات وأن أرفض حكم الفرد وصناعة الخوف. حقى أن أتضامن مع ضحايا الظلم والقمع والانتهاكات دون أن أحارب بتخوين أو تشويه أو بقيود شخصية ومهنية»/ ومتألم أن أستاذى القديم جاءنى دون الإبهار اللغوى الذى كان يلزمنى التفكير فيما يقول/ بل، ودون القلم الباركر.
استيقظت من نومى مبكرا، وكنا فى صباح الخميس الماضى/ تحركت سريعا من بيتى، كنت على موعد فى مجلس الدولة مع الصديق خالد على، والهدف كان حضور جلسة المحكمة الإدارية التى ستنظر فى الطعن المقدم منا على قرار منعى من السفر بسبب «تغريدة» على موقع تويتر/ بادرنى خالد بالقول: «شوفت البلاغ اللى اتقدم فيك من يومين على الهوا؟ إيه أخبار البيات فى البيت؟»/ عاد لى حلم «الأستاذ محمد البنا» وعاد صوته / لازم تحمد ربنا على أنك بتنام فى البيت أو أنك لسه بتنام أصلا/ اللى زيك فى بلاد تانيه أنت عارفها كويس فى معتقلات أو سجون أو ما بقوش على وش الدنيا خالص/ كفايه بقى كده.
غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.