فور انتهاء الانتداب البريطانى على فلسطين ليلة الخامس عشر من مايو ١٩٤٨ وما سبقه بساعات من إعلان قيام دولة إسرائيل واعتراف الولايات المتحدة بها، اندلعت أولى الحروب بين الدول العربية وإسرائيل، لكن قبل أن نتحدث عن الحرب ونتائجها، لابد أولا من إيضاح أمرين:
الأمر الأول: أن حرب عام ١٩٤٨ لم تكن على أرض الواقع الأولى بين العرب والمنظمات الصهيونية، فالثورة العربية الثانية (١٩٣٦-١٩٣٩)، والحرب بين المجتمعات العربية وبين اليهود الذين استوطنوا فلسطين والتى اندلعت عام ١٩٤٧ كانت وغيرها مواجهات فعلية بين العرب والصهاينة، لكن حرب عام ١٩٤٨ كانت الأولى كحرب بين جيوش نظامية عربية وصهيونية، ومن هنا اكتسبت لقب «الأولى».
الأمر الثانى: أن دولة إسرائيل وإن كانت قد أُعلنت رسميا فى ١٤ مايو ١٩٤٨، إلا أن مفهوم «الدولة» الحديثة كان ينطبق عليها بالفعل من قبل ذلك! بعبارة أخرى فإن الدولة أو «الكيان» الذى واجه الجيش العربى صباح ١٥ مايو من ذلك العام، لم تكن دولة عمرها ساعات قليلة، بل كانت دولة قائمة بالفعل قبل ذلك التاريخ. فعلى مر السنوات منذ تنظيم المؤتمر الصهيونى الأول إلى لحظة إعلان الدولة فإن مكونات الدولة الحديثة كانت تنشأ وتتطور بالفعل على الأرض وبشكل تدريجى، كما أوضحت مقالات هذه السلسلة!
فجزء معتبر من «أراضى» فلسطين التاريخية كان يتم السيطرة عليها بطرق متعددة - تتنوع بين شراء الأرض أو استيطانها بوضع اليد أو بطرد وتشريد سكانها من العرب - لمدة نصف قرن على الأقل قبل إعلان الدولة فى ١٩٤٨! كذلك فإن «الشعب» اليهودى فى فلسطين التاريخية كان قد توطن فيها على مدار السنوات من خلال الهجرة بالطرق الشرعية وغير الشرعية خلال نفس هذه الفترة الزمنية!
أيضا فإن الحكومة كانت بالفعل قائمة بأشكال مختلفة سواء قبل الانتداب البريطانى من خلال المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية، وما يعرف باسم الـ«يشوف» – أى المستوطنين اليهود قبل إعلان دولة إسرائيل - الذين شكلوا كيانات تنفيذية متنوعة كانت تنظم أمور اليهود، أو بعد الانتداب البريطانى من خلال دور الوكالة اليهودية بالأساس بالتعاون مع الـ«يشوف» وغيرها من الصيغ التنفيذية المختلفة التى عملت على إرساء دعائم الدولة العبرية قبل عام ١٩٤، وكنا قد رأينا فى المقال الأخير من هذه السلسلة كيف أنه تم إنشاء «إدارة الشعب» كحكومة مصغرة ومؤقتة لقيادة اليهود سياسيا من عام ١٩٤٧ والتى كان بن جوريون رئيسا لها ووزيرا للدفاع فى الوقت ذاته! وبنفس الطريقة فإن السلطة التشريعية كانت ممثلة فى «مجلس الدولة» الذى تم تأسيسه عام ١٩٤٧ وقام بأعمال التشريع مؤقتا إلى أن قامت الدولة!
كذلك فـ«الجيش» وإن كان لم يحصل على الشكل النظامى سوى عام ١٩٤٧ إلا أنه كان يتطور على الأرض سواء من حيث التنظيم أو من حيث التسليح على الأقل منذ عشرينيات القرن الماضى فى شكل ميليشيات مسلحة أولا، ثم فى شكل جيش شبه نظامى ثانيا حتى وصل إلى مرحلة الجيش المحترف فى عام ١٩٤٨. ومن الجدير بالذكر هنا أنه وخلال السنوات الخمس التى سبقت إعلان الدولة، كانت الوكالة اليهودية تقوم بالفعل بجلب صفقات أسلحة من أوروبا الشرقية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وكان لدى هذا الجيش القدرة على التصنيع المحلى لبعض الأسلحة الخفيفة فضلا عن تمكنه من الحصول على السلاح من بعض دول أوروبا الغربية وفى مقدمتهم الولايات المتحدة!
• • •
هكذا فإن عناصر الدولة الحديثة من «أرض» و «شعب» و«حكومة» كانت بالفعل متوفرة لإسرائيل قبل أن يعلن عن قيامها بشكل رسمى! بل وحتى «الحدود» باعتبارها أحد العناصر الرئيسية لتعريف الدولة الحديثة كانت قائمة قانونا بعد أن تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم ١٨١ والذى وفر شرعية قانونية دولية لحدود دولة يهودية فى فلسطين التاريخية!
هنا أرجو من القارئة/القارئ العربى أن يفرق جيدا بين مصطلحى «التأييد» و«الإقرار» وهى مصطلحات قد تكون مربكة لغير المتخصصين فى القانون الدولى والسياسة الدولية! فالسطور فى أعلاه، لا تعنى أن كاتبها «يؤيد» الطريقة التى تم بها تأسيس الدولة الإسرائيلية والتى احتوت - كما أوضحت دائما من خلال هذه السلسلة - على مذابح واحتلال واستيطان غير شرعى من خلال هجرات غير شرعية، ولكنه «يقر» بالأمر الواقع فى تلك الفترة، أى أن مكونات الدولة الحديثة كانت قائمة بشكل أو بآخر قبل الإعلان الرسمى عن قيامها، وأن قرار التقسيم الشهير أدى إلى إعطاء الشرعية لهذا الوجود من وجهة نظر القانون الدولى، وقد تم تأكيد هذه الشرعية القانونية الدولية عندما أصبحت إسرائيل عضوا فى الأمم المتحدة فى مايو ١٩٤٩!
هذه الإيضاحات هامة لفهم أحد أسباب التفوق الإسرائيلى على الجيش العربى عام ١٩٤٨-١٩٤٩، فاعتقاد السياسيين العرب وقتها بحتمية الانتصار فى حرب ١٩٤٨ كان أحد أهم أسباب الهزيمة لأنه – من الناحية السياسية على الأقل - لم يقدروا أو يفهموا حقيقة الدولة العبرية ومجتمعها وارتباطاتها الدولية ومن ثم قوتها التنظيمية السياسية قبل العسكرية عند قيامها! طبعا شهدت إسرائيل العديد من الأزمات والكوارث اللاحقة التى سنوضحها فى حينه!
• • •
على أى حال، قامت القوات العربية والتى تألفت بالأساس من قوات مصرية وأردنية وسورية وعراقية باجتياح فلسطين التاريخية، لمحاربة الجيش الصهيونى وتحقيق استقلال فلسطين كدولة عربية لها سيادة. فى كتابه القيّم «”حول الحركة العربية الحديثة: تاريخ ومذكرات وتعليقات» المنشور بواسطة المكتبة العصرية فى لبنان بين عامى ١٩٥٠ و١٩٥١ المكون من ستة أجزاء - وهو كتاب لا غنى عن قراءته للمهتمين بالقضايا العربية عموما وجذور تأسيسها السياسية والقانونية والثقافية - ألحق محمد عزة دروزة النص الكامل لبيان جامعة الدول العربية فى الجزء الخامس (الصفحات من ٢٠٧ إلى ٢١١) بخصوص توجه الجيش العربى إلى فلسطين.
فى البيان، تناولت مقدمته دور الدول العربية فى دعم بريطانيا ودول الحلفاء فى الحرب العالمية الأولى وعدم شرعية وعد بلفور مذكّرة العالم بالمجازر التى ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق العرب فى فلسطين، وكذلك موقف العرب الرافض لقرار التقسيم الأممى، ليصيغ البيان الذى نشر فى ١٥ مايو ١٩٤٨ أسباب وأهداف حركة الجيش العربى فى فلسطين التاريخية والتى تمثلت فى ثمانى نقاط كانت أهمها (بتصرف لظروف مساحة المقال):
أولا: حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم.
ثانيا: إعادة الأمن والاستقرار إلى فلسطين بعد أن نزح ربع مليون مواطِنة/ مواطن فلسطينى من أراضيهم إلى البلدان العربية المجاورة وبعد انسحاب قوات الانتداب البريطانية ومجازر العصابات الصهيونية.
ثالثا: عدم الاستقرار المتوقع الذى قد يطول الأمن الداخلى للدول العربية بسبب حالة غضب الشعوب العربية من إعلان قيام الدولة الصهيونية ومن ثم تهديد الأمن الإقليمى للدول العربية مع تزايد نزوح سكان فلسطين.
رابعا: التأكيد على أن الحل الوحيد العادل لقضية فلسطين هو إنشاء دولة فلسطينية موحدة وفق المبادئ الديمقراطية، يتمتع سكانها بالمساواة التامة أمام القانون، وتكفل للأقليات فيها جميع الضمانات المقررة فى البلاد الديمقراطية، وتُصان الأماكن المقدسة فيها، وتكفل حرية الوصول إليها.
خامسا: التأكيد على أن حركة الجيش العربى متفقة مع ميثاق جامعة الدول العربية فى التعبير عن ثقة الجامعة فى دعم وتأييد الأمم المتحدة لهذا التحرك العسكرى العربى.
بالطبع لم تؤيد أو تتفهم الأمم المتحدة موقف الدول العربية واندلع نزاع استمر لمدة عشرة أشهر.
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر