نشر موقع درج مقالا للكاتب مصطفى إبراهيم بتاريخ 3 نوفمبر تناول فيه سيطرة الرئيس الفلسطينى محمود عباس على السلطات الثلاث فى دولة فلسطين، ممهدا الطريق أمام الحكم المطلق شكلا ومضمونا... نعرض من المقال ما يلى.
كتب صديقى عزيز، «الرئيس صار رئيس الرئيس، رئيس كل شىء، الأب الروحى للسلطات، الله يزيد من مناصبه كمان وكمان! يرحم روحك يا مونتسكيو طبقنا مبدأ الفصل بين السلطات بأبهى صورة».
تعليقات عزيز وغيره من الفلسطينيين، جاءت بعد إصدار الرئيس الفلسطينى محمود عباس مرسوما بتشكيل هيئة جديدة باسم «المجلس الأعلى للهيئات والجهات القضائية»، التى نصب نفسه رئيسا عليها.
ويأتى فى ظل استمرار العدوان الإسرائيلى على مدينة نابلس وسقوط عدد كبير من الضحايا، ما أثار غضب الفلسطينيين الذين يلتفون حول المقاومة فى الضفة الغربية، وغضبهم من السلطة الفلسطينية ومواقفها. إضافة إلى أن المرسوم جاء بعد أزمة إصدار الرئيس عباس قرارا بقانون إنشاء نقابة الأطباء الفلسطينيين، وتحويل صلاحيات ومهمات مجلس نقابة الأطباء الحالى المنتخب ديموقراطيا، إلى مجلس تأسيسى معين، ما يعنى حل المجلس المنتخب، إذ إن نقابة الأطباء تجرى الانتخابات كل عامين.
هذا الإجراء اعتبرته أوساط طبية وحقوقية سابقة ورسالة خطيرة لجميع الأجسام النقابية المنتخبة، إذ يضعها تحت تهديد إجراءات مماثلة، واعتداء على حرية العمل والتنظيم النقابى، وهو ما من شأنه تعميق الأزمة القائمة بين الأطباء والحكومة، بخاصة أن النقابة الحالية المنتخب مجلسها، فى خلاف مستمر مع السلطة الفلسطينية، التى أعلنت مباشرة الإضراب عن العمل احتجاجا على القرار بقانون.
• • •
خلال الأيام الماضية أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى قرارات منها: يمنع على القاضى التدوين وعليه شطب ما نشره من السابق، وعلى القاضيات الإناث أن يلبسن زيا محتشما أو فضفاضا، وألا يبالغن فى الزينة والتزين.
عام 2016، أثار عزل المستشار سامى صرصور رئيس مجلس القضاء الأعلى فى السلطة الوطنية الفلسطينية من منصبه من قبل الرئيس الفلسطينى محمود عباس، خاصة بعد المفاجأة التى فجرها المستشار صرصور، حين طُلب منه توقيع استقالته قبيل أدائه القسم القانونى لتوليه منصبه. وما عناه ذلك من تعبير واضح عن حقيقة التدخل فى القضاء وواقع أنه مسيس، إضافة إلى قبول رئيس مجلس القضاء التوقيع على الاستقالة رضوخا للسلطة التنفيذية مسبقا وقبل تنصيبه حتى.
أستذكر هذه الحادثة الشنيعة، مع استمرار تقويض السلطة القضائية، بعدما أصدر الرئيس عباس مرسوما بتشكيل هيئة جديدة تحت اسم «المجلس الأعلى للهيئات والجهات القضائية»، وتنصيب نفسه رئيسا عليها، فى سابقة خطيرة، منح بموجبها نفسه سلطة مطلقة، بعدما بات المسيطر الفعلى على السلطات فى فلسطين.
وباعتبار أن إصدار هذا المرسوم، يشكل ضربة ساحقة لآخر ركائز استقلال القضاء، صمام الأمان والاستقرار والسلم الأهلى فى المجتمع الفلسطينى، وأهم أركان الديموقراطية وضمانات حقوق الإنسان، وإرساء مبادئ سيادة القانون فى الوطن.
وجاءت تلك الخطوة فى سياق تاريخى من تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، تصاعدت وتيرتها منذ الانقسام الفلسطينى عام 2007.
وبعد ذلك جاء المرسوم الرئاسى بإقالة مجلس القضاء الأعلى عام 2019 وتعيين مجلس انتقالى تحت حجج مختلفة لتصويب المسار، لكنها كانت خطوة خطيرة لعزل عدد من القضاة بذريعة الإصلاح.
وعلى إثر ذلك، أصدر الرئيس عباس ثلاثة قرارات بموجب قانون عام 2021 تتعلق بتنظيم السلطة القضائية وعملها، ليتم إلغاؤها بعدما قوبلت باحتجاجات ورفض ونقد شديد من المجتمع المدنى الفلسطينى والمنظمات الحقوقية، ونقابة المحامين وعدد من القضاة.
ومن خلال المرسوم الجديد، يمنح الرئيس عباس نفسه صلاحيات واسعة ويتمتع المجلس المذكور بسلطة إشراف عليا على جميع الجهات والهيئات القضائية فى فلسطين، بما فيها مجلس القضاء الأعلى، المحكمة الدستورية العليا، القضاء الشرعى، والهيئة القضائية لقوى الأمن.
وبناء عليه أصبح الرئيس عباس مسيطرا على السلطات الثلاث فى دولة فلسطين، حيث يستحوذ على صلاحية التشريع منذ عام 2006، بحجة غياب المجلس التشريعى وعدم قدرته على الانعقاد، وبعد حل المجلس التشريعى عام 2018، أصبح الرئيس عباس يستحوذ على سلطة التشريع، وممارستها وكأنها سلطة أصيلة له.
وعلى رغم أن المادة (43) من القانون الأساسى الفلسطينى التى يستند إليها الرئيس فى إصدار قرارات بقوة القانون، قد اشترطت أن تتم ممارسة هذه الصلاحية فى حالة الضرورة القصوى، إلا أن الواقع يؤكد أن ما أصدره الرئيس الفلسطينى منذ عام 2006 يساوى أكثر من ثلاثة أضعاف (388 قرار بقانون) التشريعات التى صدرت منذ قيام السلطة الفلسطينية عام 1994.
كما أن الرئيس عباس هو رئيس «منظمة التحرير الفلسطينية»، ويسيطر بشكل فعلى على الهيئات، ومنها المجلس الوطنى، الذى يعتبر بموجب أحكام صادرة عن المحكمة الدستورية الفلسطينية بمثابة هيئة تشريعية عليا، تسمو قراراتها على كل ما يصدر عن السلطة الفلسطينية.
• • •
وعليه فإن منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية أكدت أن المرسوم الصادر يتعارض مع مبدأ المشروعية ويتعارض مع القانون الأساسى الفلسطينى والتزامات فلسطين الدولية. وهو بمثابة إصدار شهادة وفاة لأى أمل فى وجود ديمقراطية فلسطينية أو سيادة قانون أو لمبدأ الفصل بين السلطات، ويؤسس لحالة من الحكم المطلق شكلا ومضمونا، لن يكون من السهل التنصل منها، وستورث الشعب الفلسطينى أعباء مضافة إلى عبء الاحتلال الإسرائيلى.
كما أن المرسوم المذكور يخالف القانون الأساسى الفلسطينى لسنة 2003 من وجوه عدة، إذ يتعارض مع المبدأ الأساسى الذى أكده القانون الأساسى فى المادة (2) وهو: الفصل بين السلطات.
ويتعارض المرسوم مع مبدأ أساسى آخر، وهو استقلال السلطة القضائية، فصدوره لا يمثل مجرد تدخل فى عمل السلطة القضائية، بل يتجاوز ذلك إلى وضع السلطة القضائية تحت السلطة المباشرة لرئيس السلطة التنفيذية، عندما شكل مجلسا برئاسة رئيس السلطة التنفيذية ليشرف على الهيئات والمجالس القضائية.
ينظر الفلسطينيون إلى هذه القرارات على أنها تقويض لمجتمعهم، ودليل على حالة التفرد المطلق الذى كرسه الرئيس عباس فى استيلائه على السلطات، بداية من حل المجلس التشريعى وحل مجلس القضاء، إلى السيطرة على مؤسسات المجتمع المدنى وفرض القيود عليها، وعلى النقابات، وبكل الوسائل.
ويجد المجتمع الفلسطينى نفسه فى مواجهة سياسة التفرد وتغييب الشعب والمؤسسات، فيما أدت سياسات السلطة وتوجهاتها القانونية إلى التفرد وإنكار الآخرين، واستمرار تجاوزات الرئيس عباس التى تتم شرعنتها بقوانين على المجتمع المدنى والنقابات، ما يعنى تقويض مكتسبات الشعب الفلسطينى ووضع عراقيل أمام إعادة تشكيل النظام السياسى الفلسطينى، على قاعدة احترام القانون الأساسى الفلسطينى.
النص الأصلي