حسن أن نشخص الداء، وأحسن أن نصف الدواء، ولكن الأحسن والأجدى هو ضمان وصول الدواء إلى المريض فى الوقت الملائم، وبالطريقة المناسبة، وتحت إشراف الطبيب، أو الفريق الطبى المؤهل.
نعم مصر فى أزمة سياسية كبرى، أخطر ما فيها انعدام اليقين فى المستقبل، واستنفاد نظامها السياسى المنبثق عن تجربة ثورة يوليو 1952 لجميع مبررات بقائه العملية والنظرية، دون أن تبدو من داخله أى إيماءة جادة على الشعور بالحاجة إلى التغىير، أو الرغبة فيه، ولذا فربما يحتاج ضغطا من خارج هذا النظام.. أى من المجتمع المصرى، إما للمبادرة إلى التغيير المحسوب على أساس توافق وطنى مثلما اقترح الأستاذ هيكل وغيره كثيرون، وإما لإفساح الطريق ــ رغما عنه ــ لقوى سياسية وطنية أخرى تستطيع التوافق على رؤية للتغيير، وتنفيذ هذه الرؤية.
ولا شك أن الإيماءات ــ ولا أقول المبادرات ــ الصادرة من شخصيات كبيرة بوزن الدكتور محمد البرادعى، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية، والسيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، جنبا إلى جنب مع المبادرة المتكاملة الأخيرة للأستاذ هيكل، تصب كلها فى سياق خلق قوة دفع مصرية وطنية صرفة لحث النظام على التجاوب مع مطلب التغيير الملح، ولا شك أيضا أن كلا من موسى والبرادعى يصلحان، ومعهما آخرون دوافع لهذا التغيير، وخاصة عن طريق الدخول الشخصى المباشر للمعترك السياسى، وهذا ما أبدى استعدادا صريحا له الدكتور البرادعى، وما أبدى استعدادا ضمنيا له السيد عمرو موسى، لكنهما معا اختارا انتخابات الرئاسة المقبلة فى عام 2011 ميدانا لهذا الدور، وعلى الرغم من أننى لا أعترض على أى منهما مرشحا أو شاغلا لمنصب رئاسة الجمهورية المصرية، بل ربما كنت أتمنى ذلك لأى منهما، أو أى شخصية أخرى يختارها المصريون بملء إرادتهم الحرة، فإننى مع ذلك أخشى أن تكون هذه البداية خاطئة، فضلا عن أنها قد لا تكون بجدية من الناحية العملية البحتة.
ولنأخذ أولا شروط البرادعى، وهى فى تفاصيلها لا تحتاج إلى إعادة سرد، ولكنها فى مجملها تشبه حقا المطالبة ببيعة من المصريين كما وصفتها «الشروق» فى العنوان الرئيسى لصفحتها الأولى يوم الجمعة الماضى، فالرجل يحدد شروطا هى فى ذاتها عادلة ومطلوبة، من وضع دستور جديد، إلى إدارة قومية محايدة للعملية الانتخابية، إلى رقابة دولية بقيادة الأمم المتحدة ذاتها، ولكن فى الغالب، ووفقا للسياق الذى طرح فيه هذه الشروط العادلة والمطلوبة، سيبقى فى مكانه فى انتظار تحققها، ولم يقل لنا من الذى سيحققها، هل هو النظام الحالى؟ وهذا رابع وخامس بل وعاشر المستحيلات، أم أنه ينتظر معجزة من السماء لتحقيقها، وإلا فإنه لن يقدم على خطوة الترشيح للرئاسة.
أما الأمين العام لجامعة الدول العربية، وزير الخارجية المصرية الأسبق، فإنه بدوره تحدث أيضا عن الترشح لمنصب الرئاسة، ومع أنه لم يحدد شروطا بعينها، لكنه ترك إعلان النية الصريحة، فضلا عن القرار للوقت، بما يعنى أنه فى انتظار متغيرات ليتخذ قراره بناء عليها، وربما كان أقرب هذه المتغيرات إلى التصور هو قرار الرئيس مبارك ما إذا كان سوف يرشح نفسه لفترة سادسة، أم أنه لن يفعل ذلك، أخشى أن إستراتيجية البرادعى، وإستراتيجية موسى ليستا هما الأسلوبان الصحيحان لإحداث أو دفع التغيير المنشود فى مصر، ولكن هناك ــ حسب رأيى المتواضع ــ إستراتيجية أو إستراتيجيات أقل تكلفة، وأكثر فائدة، يمكن للبرادعى وموسى، وجميع الشخصيات ذات الوزن والحائزة على احترام وثقة كتل كبيرة من المواطنين أن تطبقها من الآن وحتى حلول موعد الاستحقاق الرئاسى، وباختصار: لماذا لا يفكر هؤلاء جميعا، أو بعضهم خاصة البرادعى وموسى والدكتور محمد غنيم وآخرين فى ترشيح أنفسهم لانتخابات مجلس الشعب المقبلة؟!
الفوائد التى سوف تترتب على هذه الخطوة لن تحصى، ولن تعد، وسوف تشكل فى تفاعلها ومجملها تغييرا كبيرا أو مقدمة لتغيير كبير فى الحياة السياسية المصرية، ويمكن لهؤلاء أن يدخلوا الانتخابات البرلمانية بوصفهم كتلة مستقلين على توافق أو تنسيق فيما بينهم، أو يدخلوها مستقلين فرادى ثم يتجمعون داخل البرلمان على برنامج سياسى وتشريعى للتغيير، بما فى ذلك التغيير الدستورى.
إن ذلك التغيير أو مقدماته سوف تبدأ منذ اللحظة الأولى لنية الترشيح للمقعد النيابى، فسوف يشعر المواطنون أن هؤلاء الذين يطمحون لخدمة مصر من خلال منصب الرئاسة جادون ومستعدون للتضحية. فموسى سوف يضحى بمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، أو بفرصة الضغط المصرى من أجل التجديد له فى المنصب لفترة ثالثة، وبذلك يقطع الطريق على الذين يتهمونه بأن حديثه عن الترشح للانتخابات الرئاسية ليس أكثر من مناورة للضغط على الرئاسة والخارجية المصرية للإصرار على بقائه أمينا عاما للجامعة لفترة ثالثة باستقطاب دول الخليج، وخاصة السعودية. أما بالنسبة للبرادعى، فإن شبهة انتظار بيعة المصريين له بوصفه «المنقذ الإلهى من الضلال» سوف تزول تلقائيا.
وفضلا عن ذلك فسوف تتشكل على الفور فى قلب المجتمع المصرى كتل من المؤيدين لهذا وذاك من تلك الشخصيات، وهذا فى حد ذاته يعنى حراكا حتميا، فإذا تفاعلت الكتل، فإننا سنكون بإزاء حوار وطنى واسع يفرض نفسه تلقائيا على الجميع خارج السلطة وداخلها، إلى ذلك سوف تصعب تماما عمليات الترويج الإدارية، وسيناريوهات الإخراج المسبق لتجارب الانتخابات، وفى مقدمة الأسباب التى سوف تجعل التزوير صعبا، الاهتمام الشعبى الواسع والمكثف الذى سوف تحظى به انتخابات برلمانية يخوضها أمثال البرادعى وموسى.. وغيرهما، كما سوف تحظى مثل هذه الانتخابات باهتمام عالمى يفوق الاهتمام الذى حظيت به الانتخابات الأخيرة أضعافا مضاعفة. كما أن معظم القوى السياسية سوف تأخذ المسألة بجدية أكبر، فلا تدخل فى صفقات مريبة مع الحزب الحاكم، أو ستحصل على شروط أحسن فى حالة الدخول فى صفقات، وكل ذلك لا بأس به، لأنه يحرك بركة المياه الراكدة فى الحزب الوطنى وعموم الحياة السياسية المصرية.
أما إذا أسفرت هذه الانتخابات عن فوز هذه الشخصيات الرفيعة بمقاعد فى مجلس الشعب المقبل ــ كما هو متوقع ـ فسوف يختلف المشهد السياسى كلية، ومن المؤكد أن عددا كبيرا من النواب المستقلين والمعارضين سوف يجدون «نواة صلبة» يلتفون حولها من أجل إحداث النقلة المطلوبة فى الأداء البرلمانى، سواء من حيث رقابة الحكومة، ومحاسبتها، أو من حيث إقرار وإحباط التشريعات، وصولا بالطبع إلى خلق تيار برلمانى ومجتمعى قوى يفرض الثورة الدستورية المطلوبة من أجل ألاىتجاوز موعد الاستحقاق الرئاسى ذاته، فإن لم تكتمل الثورة الدستورية فى ذلك الأجل القصير نسبيا، فالمؤكد أن «الشعب» من خلال مثل هؤلاء الممثلين البرلمانيين سوف يحصل من السلطة على تنازلات مهمة، وسوف يفرض على مرشح الحزب الوطنى للرئاسة ــ خاصة إذا لم يكن الرئيس مبارك شخصيا ــ استحقاقات وتعهدات ديمقراطية نحن فى أمس الحاجة إليها، ولن يكون من المستبعد أن يحصل مرشح توافقى من هؤلاء النواب على النصاب اللازم لترشيحه مستقلا للرئاسة، مادام أنهم ــ أى هؤلاء النواب ومرشحهم التوافقى ــ سوف يكونون فى قلب المعترك السياسى و«المطبخ» البرلمانى ويكونون قد سجلوا انتصارات تشعر الأنصار والمترددين بالثقة والجدوى.
*****
أخيرا، أذكر الدكتور البرادعى بنموذج تورجوت أوزال الرئيس التركى الراحل، فالرجل الذى عمل طويلا فى البنك الدولى، لم ينتظر أن يأتيه الأتراك ليبايعوه لإنقاذهم من حكم الجنرال الانقلابى كنعان إيفرين، ولكنه عاد إلى بلاده، وقدم نفسه، وشكل حزبا دخل به انتخابات حاز فيها على الأغلبية من خلال الشروط الدستورية التى كانت سائدة وقتها.
أما السيد عمرو موسى فأذكره بنموذج «ذوالفقار على بوتو» فى باكستان، فقد كان وزير خارجيته الماريشال محمد أيوب خان، ولكنه ترك المنصب، وتزعم المعارضة، وكان يقود المظاهرات بنفسه.. عندما أيقن أن أيوب خان قد وصل مع باكستان إلى طريق مسدود.
وما نطلبه من البرادعى وموسى أقل كثيرا مما فعله أوزال وبوتو على أى حال.