الإنسان على شاطئ الحيرة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 3:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإنسان على شاطئ الحيرة!

نشر فى : السبت 7 ديسمبر 2024 - 7:20 م | آخر تحديث : السبت 7 ديسمبر 2024 - 7:20 م

ربما لا يكون فيلم «بارثينوبى»، الذى افتتحت به بانوراما الفيلم الأوروبى فى القاهرة، من أفلام المخرج باولو سورينتينو محكمة البناء، ومع ذلك فهو تجربة جديرة بالمشاهدة والتأمل، وتظل مع ذلك مشكلتها فى امتلائها بالأسئلة، وافتقاد التجانس، وتشويش الأفكار على بعضها البعض.
يمكن أن نلخص مشكلة الفيلم فى عبارةٍ تتردد كثيرًا على لسان شخصيات الفيلم، وهى «يجب أن تطلق لنفسك العنان»، فقد طبّق سورنتينو النصيحة على فيلمه الذى كتبه وأخرجه، فأطلق لنفسه العنان، محاولًا أن يقدم دراسة للإنسان، ومواجهته لأسئلة كثيرة مؤرقة، ثم كان طموحه أيضًا أن يحكى عن مدينته نابولى.
اسم الفيلم «بارثينوبى» يشير إلى اسم البطلة، ويشير أيضا إلى الاسم اليونانى الذى أطلق قديمًا على نابولى، فكأن الحكاية عن الاثنين: الفتاة الجميلة، والمدينة الجميلة، أو كأن الفتاة هى مجاز المدينة، وبالعكس.
من المناسب أولا أن نقدم مفتاحين مهمين لقراءة كل هذه الأفكار المكدسة، الأول هو أن عالم سورنتينيو يبدو واقعيّا تمامًا، ولكنه يغلفه بلمسة سحرية أو فوق واقعية، والأمر الثانى هو أنه يحكى حكاية، ولكن بطريقة أكثر حرية، وتعتمد أكثر على الانتقالات الزمانية والمكانية، والمشاهد الطويلة نسبيا، وهو فى الأمرين متأثرٌ - بالطبع - بالعبقرى فيدريكو فيللينى، وفى «بارثينوبى» مثلًا هناك أصداء من مشاهد بعينها من أفلام فيللينى، لا ينقلها سورنتينيو، ولكنه يقدم إليها التحية.
الفيلم كله عبارة عن رحلة اكتشاف هذه الفتاة للحياة والعالم وأفكاره، منذ مولدها فى العام 1950 وحتى العام 2023، ذلك أنها ليست جميلة الجسد فحسب، ولكنها متوقدة الذهن أيضًا، ومثقفة، وهى تدرس الأنثروبولوجيا، وهو علم الإنسان، ولذلك يمكن اعتبار الفيلم محاولة لاكتشاف الإنسان، بحثًا عن الاستقرار والسعادة.
ولأن هذه الواقعية على مشارف الأسطورة والسحر، فإن بارثينوبى ولدت فيما يشبه القلعة التى تطل على المدينة، وولدتها أمها فى البحر، و«بارثينوبى» - فى الأسطورة اليونانية - هى واحدةٌ من حوريات البحر الشهيرات، اللاتى كنَّ يغنين للبحارة، فيقدنهم إلى الغرق، وصاحب القلعة، ولعله صاحب المدينة، وكان أيضًا عمدة نابولى، يطلقون عليه اسم القائد، ومنذ طفولتها، تعيش بارثينوبى بين شقيقها رايموند، وابن الخادمة سيندرانو، والاثنان مفتونان بها وبجمالها.
على مستوى آخر، فإن الفتاة لا تتوقف عن طرح الأسئلة، ولا تبدو مهتمة على الإطلاق باستغلال جسدها، نراها تقرأ كتبًا، وترفض أن تقيم علاقات جسدية لمجرد الشفقة أو المتعة، ونراها طالبة متفوقة تناقش أستاذها الكئيب فى مادة الأنثروبولوجيا، وتلتقى بكاتب أمريكى يحدثها عن أحلامه الضائعة فى مرحلة الشباب، وينبهها إلى أن الجمال مثل الحروب، يمكن أن يفتح لها كل الأبواب.
نقطة التحول فى حياتها تكون بانتحار شقيقها، وشعورها بالذنب، لأنها كانت وقتها مشغولة بغزل رايموند لها، ونقطة التحول أيضا، والدخول إلى عالم نابولى تكون بذهابها إلى فلورا مدربة التمثيل التى تخفى عنها وجهها لأنه مشوه من عملية تجميل فاشلة، ثم لقائها مع جريتا كول، الممثلة الإيطالية الشهيرة التى تركت نابولى، وتهاجم أهلها بكل وقاحة، وتخوض بارثينوبى أيضًا تجربة لا تخطر على بالها مع نماذج أخرى غريبة.
تعيش الفتاة أيضًا تجربة هى الأغرب مع أحد القساوسة الذى يتاجر فى المعجزات، ويحلم بلقب البابا، ويطمع أيضًا فى جسدها، ثم تتعرف على حياة أستاذها فى الأنثروبولوجيا، والذى أنجب ولدًا ضخمًا مشوهًا غريب الشكل، يعيش معه، ويرعاه، وتحصل بارثينوبى على الدكتوراه.
• • •
فى المشاهد الأخيرة، نراها فى العام 2023، وتلعب دورها فى هذه المرحلة، الممثلة الشهيرة القديمة سيتفانى سيندريللى. لم تتزوج بارثينوبى، ولكن طلابها يحبونها، تعود إلى نابولى، وتشاهد فرحة جمهور الكرة بفوز إيطاليا، وكأن بطلتنا تتصالح مع مكانها ومدينتها، رغم أنها لم تحقق السعادة، ولا الأمومة، ورغم أن عينيها باهتتان، ولكنها ما زالت تحلم بالحرية.
يبدو أن عقل بارثينوبى الجميل قد جعل حياتها أكثر تعقيدًا، فليس كل شىء يجب أن يتدخل فيه العقل، وخاصة أن الإنسان ونابولى أمور فى غاية التعقيد والتناقض، كما ستكتشف بارثينوبى بنفسها.
وقد قرر أستاذها أن يشرح لها علم الإنسان على مراحل، وقال لها فى آخر مرحلة إن هذا العلم هو «الرؤية»، وأعتقد أن المقصود هنا أن ترى بنفسك، وأن تجرب، وأن تخوض الحياة بشكلٍ مباشر، وقد ذهبت بعدها مباشرة، ورأت هيئة ابن البروفيسور الضخمة، ولكنها أعجبت بالابن العجيب المشوه، لأنه متحرر من الرغبة والبحث، ومتحرر من العالم كله، وما زال محتفظا ببراءته، ومتصالحا مع ذاته.
لكن الرحلة تعانى من التشوش، لأن قراءة المدينة تتداخل مع قراءة الإنسان، ولأن شخصية بارثينوبى تظل ثابتة فى فترات زمنية كثيرة، ولأن قلبها يبدو غائبا تماما، وهو أمر غريب، وغير معقول، يضاف إلى ذلك تلك المساحة الزمنية الكبيرة نسبيا، التى خصصت لعلاقته مع أخيها وحبيبها الأول، ولا شك أن حضور قلب وعواطف هذه الجميلة المتمردة كان سيثرى الصراع دراميا، وكان سيجعل الشخصية أكثر إنسانية.
• • •
تبدو لى أزمة بارثينوبى فى أنها تأملت الحياة، وترددت فى أن تعيشها، وأنها لم تنتبه إلى خطورة عامل الوقت والزمن، والذى يفاجئنا طوال الفيلم فى شكل سنوات مكتوبة على الشاشة، وفى أنها لم توازن بين العقل والقلب، وبين الروح والجسد.
درست بارثينوبى علم الإنسان، ولكنها لم تفهم البشر، ولا نفسها، ولا مدينتها، ولدت على الشاطئ، وعاشت على شاطئ الحياة، وأغرقت أخاها وحبيبها الأول، ولم تنقذهما، مثل حورية البحر اليونانية القديمة، استدرجتهما بالجمال، ولكنها لم تستفد من جمالها بعد ذلك.
ولعل أسئلة فتاة نابولى الجميلة بلا إجاباتٍ أصلا، فالتناقض عنوان الحياة مدينة وبشرًا، والسعادة الكاملة وهم، والجمال نسبى، وقد يشوهه طبيب تجميل غبى، والمسافة بين النظريات والحياة واسعة وعميقة، فكيف يمكن أن يستقر الإنسان؟! وكيف يمكن أن ننام بدون كوابيس؟!


محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات