القاهرة.. مدينة الليل بامتياز - مواقع عالمية - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 7:31 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القاهرة.. مدينة الليل بامتياز

نشر فى : السبت 8 فبراير 2020 - 8:35 م | آخر تحديث : السبت 8 فبراير 2020 - 8:35 م

نشر موقع قنطرة مقالا للكاتب «إبراهيم مشارة» وصف فيه رحلته إلى مصر.. نعرض منه ما يلى:

حقًا القاهرة مدينة لا تنام على النقيض من كثير من المدن العربية وهى فى هذا تشبه باريس كثيرا، وتختلف عن كثير من المدن العربية التى يسلمها النهار إلى كسل وشخير، بينما يخفُّ الليل خفيفا من مهده يركض ويدب شابا يافعا فى مدن أخرى صاخبا نشيطا.
ومن تلك المدن القاهرة، مدينة الليل بامتياز، حتى النيل وهو يعبر المدينة بوقار إلى مصبه بالبحر الأبيض بعد أن قطع آلاف الكيلومترات فى الفيافى، وما ضاق أو تململ، تتراقص الأضواء على صفحته وينتشى نسيم الليل سكرا وعربدة، فينفح بأريحية ركاب مراكب النزهة بنسمات وساعات هناءة ويزيد إيقاع الموسيقى فى جمال اللوحة نعمة اللحن ونعمة المكان وشهامة النيل وكرمه الحاتمى.
ومن تقاليد المدينة تلك النوادى الأدبية الليلية وأشهرها «الأتيليه» و«ساقية الصاوى»، يجتمع المثقفون من أساتذة الجامعة والكتاب والفنانين وأحباب الأدب هناك يسمرون، يشربون الشاى يدخنون رجالا ونساء، وربما قدم شاعر أمسية شعرية وربما قدم أستاذ محاضرة مشفوعة بمناقشة وتدخلات من الحاضرين.
ميدان التحرير، خان الخليلى، ميدان طلعت حرب، شارع الأزهر.. أمكنةٌ لاكتظاظ وزحمة شديدة تضاف إليها قوافل السياح ورقة النسيم واعتدال الجو فى يناير، أشياء تشدك إلى السمر، ولخبطة مواعيدك فستنام عند الفجر لتنهض عند الزوال.
صالات السينما تعرض أفلامها والرجال والنساء يستمتعون بالعروض يدخلون أفواجا ويخرجون أفواجا بعضهم راض عن الفيلم وبعضهم ساخط يستخسر الجنيهات التى دفعها ثمنًا للتذكرة.
فى حين تغرق القاهرة فى الزحمة، فى هشاشة البنيان، فى البيروقراطية، فى العنوسة، فى مشكلة الإسكان فى البطالة فى الفقر والتسول يارب رحمتك! على أننى أحب القاهرة، والله.
أدخل مسجد الحسين بخان الخليلى أقف أمام الضريح أنتشى بعبق البخور، أقرأ تلك القصيدة الرائعة فى مدح سيدنا الحسين ورثائه والمكتوبة بخط جميل فى إطار بهى كتبها شاعر مقيم بلندن. أجلس قبالة الضريح، هناك من يقول إن رأس الحسين ــ رضى الله عنه ــ فقط هو المدفون هنا، وهناك من يقول الرأس وسائر البدن معا، ومن يقول لا أثر للحسين هنا، ولكن للأمانى والآمال والدعوات والأنات والآهات الحضور القوى.. يا سيدنا الحسين عريس لابنتى والله عنست، يا سيدنا مريض ولا أجد دواء ولا علاجا جد علينا بالعافية أنا فى عرضك ــ يا سيدنا اُمنن على بالنجاح إنك لا تخيب ــ أهواها ومش واخدة بالها وأنا مكبوت وميش عايز غيرها بركاتك يا سيدنا قلبها بين أصابعك.
وهو ما تسمعه فى مسجد السيدة زينب ــ رضى الله عنها ــ آهات وأنات ودعوات وأمانى عذاب وعرق وبخور ودموع وشهقات. جلسات الإنشاد الصوفى وحلقات قراءة القرآن من أروع ما تسمعه فى القاهرة ليلا. شعر ابن الفارض، والسهروردى، وقصائد كعب والبوصيرى ورابعة العدوية بلحن عذب شجى يتمايل بدنك رغما عنك دون أن يستأذنك، هنا تنسى كثافة المادة وتسمو على غريزة الطين وتعرج فى لمح البصر إلى السماوات العلى، رأسك يتكهرب وجلدك يقشعر والزمن يتجمد، ثم يتلاشى هنا لا زمن لأن الروح حاضرة طمست البدن، وليس للروح زمن يقاس بالساعة والدقيقة.
وأنا أتمشى على كوبرى 6 أكتوبر، والنيل تتراقص الأضواء على صفحته معربدة والآتية من الفنادق والمحلات والمؤسسات الرسمية واللوحات الإشهارية تلقنك أن الزمن زمن العولمة؛ حيث العالم العربى على حاشية التاريخ حين دخل غيره متنه.
كانت الأحزان تضرب بموجها صخرة قلبى، فتفتها كما يفت الموج صخرة البحر. لقد عجزت مصر وتذمر الناس وضاقوا بحياتهم، لم يعد للساعة معناها، شاخت الدقائق وتقوست ظهور الساعات، وتوكأت على عصى اليأس ولم يعد للفرح ألقه، ولا للوجه العربى هويته إنه مجرد كتلة هلامية موحشة كقبر منسى بلا ملامح تملأ الفراغ.
أزحت بيدى تلك الصخرة وأشحت بوجهى عن الأحزان وأتممت تدخين سيجارتى رغما عن حزنى الفطرى وشجوى المبرر، أمسكت بخاصرة الأمل وطوقت شماريخه بذراعى واندغمت فى نظرة حانية فى صفحة النيل سائلا الله ساعة للفرح العربى.


النص الأصلى

التعليقات