التنمية الاقتصادية عمادها تراكم رأس المال المنتج. ويتحقق من التنمية ما تسمح به كمية ونوعية رءوس الأموال الموجهة لبناء القواعد الإنتاجية، فى المجالات والقطاعات الأعلى إنتاجية وخاصة الصناعة المتطورة تكنولوجيا والخدمات العلمية والتكنولوجية. على أن تكون التنمية بهذا المعنى موجهة لتلبية الحاجات المادية والروحية للغالبية الاجتماعية ولترقية الإنسان فى مجتمعه.
ولكن كيف يسهم تراكم رأس المال المنتج فى التنمية..؟ ذلك من خلال تعبئة الموارد الرأسمالية الموجهة لبناء القواعد الإنتاجية، عبر تعظيم الفائض الاقتصادى المدّخر بعد قضاء الاحتياجات الاستهلاكية للسكان، وتوفير البنى القاعدية، وتوفير أدوات الأمن الضرورى والدفاع الاجتماعى وتسيير دولاب الجهاز الإدارى.
وإن «كلمة السر» فى كل ذلك، كما هو واضح، هى المدخرات والاستثمارات، فهى (المبتدأ والخبر) إن صح التعبير. وإذن فإن الادخار والاستثمار (كوجهين لعملة واحدة ــ كما يقولون) هما مفتاح العملية التنموية بحق. فماذا يعنيان..؟ هذا ما نحاول معالجته هنا، بدءًا بالادخار، وانتهاء بالاستثمار.
• • •
ما الادخار..؟ الادخار هو مخزون رأس المال (المالى والعينى) المكون عبر عملية «التراكم»، تراكم رأس المال Capital accumulation. فهو إذن ذلك الجزء المخصص من مجموع التراكم الرأسمالى المنتج والموجه لتنمية الناتج الاجتماعى، للاستثمار المباشر؛ حيث الاستثمار المباشر هو المخصص النقدى ــ المالى الموجه للمشاركة فى عملية الإنتاج، ومقابله العينى. وهذا المقابل العينى إما استثمار إجمالى وإما استثمار صاف.
الاستثمار الإجمالى عنصران: عنصر متحرك، وعنصر ساكن. العنصر المتحرك يتمثل فى الآلات والمعدات، على اختلاف أطوار الرقىَ فى الآلات والمعدات، من «شبه اليدوى» إلى الرقمى الخالص إلى الأوتوماتية. أما العنصر الساكن فيتمثل فى الإنشاءات والمبانى والمخزون.
وهذا الاستثمار المتمثل فى العنصر المتحرك يكون له وجهان: استثمار إجمالى، ثم استثمار صافٍ، يقدّر بالاستثمار الإجمالى مخصوما منه مخصص الإهلاك depreciation.
ونعود إلى نقطة البدء لنقول إن المدخرات، بالمعنى الاقتصادى، هى رءوس الأموال الداخلة فى تكوين رأس المال المستثمر، سواء عنصره الساكن أو المتحرك، والتى توجّه فى السياق التنموى إلى الزيادة الكمية للناتج، من جهة أولى (أى مجرد النمو) وإلى التأصيل النوعى للناتج الاجتماعى، باتجاه التعميق التكنولوجى ــ المجتمعى، من ناحية ثانية.
وتجدر الإشارة بصفة خاصة إلى أن المعنى التنموى الأصيل للادخار ينصرف إلى تكوين المدخرات القومية الموجهة للاستثمارات المنتجة المؤدية إلى بناء عائد منتظم من باطن تعظيم الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج TFT Total Factor Productivities، ومن ثم إنتاجية عنصر العمل محسوبة من واقع قيمة الناتج الكلّى مقسومة على عدد العاملين لاسيما المنتجين منهم ــ باستبعاد ما يسمى «بالبطالة المقنّعة» أو الجزء الهامشى من قوة العمل.
وإذن فالمدخرات القومية فى هذا السياق هى تلك الأموال المجنّبة لتنمية الناتج المحلى الإجمالى، وتغيير هيكله القطاعى إيجابيا لصالح القطاعات الأعلى إنتاجية والأكثر رُقيّا تكنولوجيا فى السياق الإنسانى ــ الاجتماعى. بدون هذه المدخرات القومية، لن يمكن توسيع قاعدة الاستثمارات الوطنية الأصيلة. ويلاحظ فى هذا المقام أن المدخرات القومية فى الاقتصاد المصرى ظلّت بالغة الضآلة خلال السنوات الأخيرة، لا سيما العقد الأخير، حتى لتفيد البيانات المتاحة أن معدل الادخار الوطنى تراوح بين 6% و8% فقط من الناتج المحلى الإجمالى خلال السنوات الأخيرة مع معدل للاستثمار يبلغ نحو 13%.
هذا فى حين بلغ معدل الادخار (والاستثمار كذلك إلى حدّ كبير) فى بلدان شرق آسيا الناهضة خلال حقبة الازدهار التنموى لتلك الاقتصادات حديثة التصنيع (وخاصة من الستينيات إلى الثمانينيات من القرن العشرين) نحو 60%. من هنا تتضح أهمية وضرورة رفع معدل الادخار (والاستثمار) كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى فى مصر، وذلك بالنظر إلى أهمية وضرورة بناء الاستثمارات المنتجة من باطن المدخرات القومية بالذات، وليس من خلال الموارد الأجنبية: القروض والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، و«المعونات التنموية الرسمية».
من الادخار والاستثمار إلى إعادة هيكلة الإنتاج
من المعلوم بالضرورة ــ كإحدى بدهيات الاقتصاد السياسى الدولى ــ أن هياكل الإنتاج، تنقسم من حيث التركيب القطاعى إلى ثلاثة، أو قُلْ أربعة أصناف، مرتبة تصاعديا بالمعنى العام:
• الصنف الأول هو ما يطلق عليه الهيكل الذى تسوده أو تسيطر عليه، الأنشطة «الأولية» Primary أى التى لم يداخلها فى صلبها نشاط بشرى ــ اجتماعى يغير من طبيعتها ومن وظيفتها فى المجتمع. تلك هى أنشطة الصيد والرعى والزراعة، حيث تصل، فى الزراعة مثلا، فى أقصى أحوالها إلى مجرد بذر البذور وتعهدها بالسقى وما إليها بالمخصبات، حتى تنبت فتزدهر.
• أما الصنف الثانى فهو الإنتاج الصناعى. والإنتاج الصناعى نوعان: نوع هو إلى الأنشطة الأولية أقرب، أو هو نشاط أولَى بامتياز، وهو ما يسمى بالصناعة الاستخراجية extractive أى تلك القائمة على مجرد استخراج المعادن وما إليها، من جوف الأرض أو باطن البحار. فهذه صناعة ولكنها تقتصر على مجرد «الوصول إلى» والحصول على «المنتجات» الجاهزة من الطبيعة بغير جهد يغَير من طبيعتها ومن وظيفتها. ذلك هو الوقود الأحفورى بالذات، الفحم والنفط والغاز.
هذا على عكس النشاط الصناعى ــ «التصنيعى» ــ الذى يطلق عليه القطاع «الثانى» أو «الثانوى» Secondary وهو الصناعة التحويلية Manufacturing industry التى تقوم على عملية كاملة لإعادة التحويل والتحوير لتغيير الوظيفة الإنتاجية المنوطة بها تغيير تام لتلائم هذا الغرض أو ذاك من أنشطة سلع الاستهلاك، أو صناعة السلع الوسيطة، أو صناعة السلع الرأسمالية من الآلات والمعدات. هذه تأخذ المنتجات الأولية، زراعية أو معدنية أو غيرهما، وتعيد بلورتها فى قالب جديد كليا. فمن النفط الخام مثلا تنتج البتروكيماويات الأساسية والوسيطة والنهائية، لتستخدم استخداما إنتاجيا أو استهلاكيا، حسب الأحوال.
الصناعة التحويلية بهذا المعنى تكون ذات إنتاجية مرتفعة، وموجهة للإشباع المباشر وغير المباشر للاحتياجات الاجتماعية. وهى تقتضى استخدام فنون الإنتاج عالية التطور نسبيا، لتتلاءم مع العمليات المعقدة للتصنيع.
ثم هناك القطاع الثالث أو «الثالثى» Tertiary وهو الخدمى بالذات، أو قطاع الخدمات. والخدمات بدورها نوعان: نوع تقليدى يرتفع عن النشاط الأوَلى، ولا يرقى إلى مراقى التصنيع التحويلى المستخدم لفنون الإنتاج الأكثر تطورا. مثال ذلك الخدمات الاجتماعية (الأمن والدفاع)، وخدمات جهاز الدولة أو الجهاز الإدارى، ثم الخدمات الشخصية على اختلافها وتنوْع أطوارها، ومثلها كثير مما نصادفه فى حياتنا اليومية كتجارة التجزئة وخدمات النظافة الشخصية، وما إليها.
أما النوع الثانى من الخدمات فهو النوع الأكثر تطورا وتقدما تكنولوجيا عن كل ما عداه، وعن تلك الصناعة التحويلية بالذات. ذلك هو «الاقتصاد الخدمى» الذى يطلق البعض مسمَى الاقتصاد ما بعد الصناعى.
قل مثل ذلك عن الخدمات المرتبطة بما يسمى بالذكاء الاصطناعى والأتمتة automization وبالرقمنة بالذات كخدمات الحاسبات المتطورة ــ كبيرة كانت أو صغيرة ــ تلك القائمة على الشرائح الدقيقة، وهذه بدورها (تسرح وتمرح) فى كل الأنشطة العصرية المتقدمة تكنولوجيا، ومن ذلك صناعات الطب والدواء، والفضاء، والإلكترونيات الدقيقة.
الخدمات المتقدمة تكنولوجيا على هذا النحو تكاد تنفرد بكونها قطاعا متفردا، لا تنتمى إلى غيرها، ويكاد يكون قطاعا «رابعا» أو لعله «خامسا»، لا يختلط بغيره. وهو الذى يطبع بطابعه الاقتصادات الأعلى تطورا، غير أننا نرى أنه ليس كل ما هو متقدم تكنولوجيا، هو بالضرورة الأكثر فائدة والأعلى منفعة للبشر، فلربما يوجه لصناعة الحرب والدمار أكثر مما يوجد لإشباع الاحتياجات الإنسانية.
لذلك نظن أن «أنسنة التكنولوجيا» هى الأوْلى بالاعتبار عما عداها، وماذا يفيد الناس من الآلات الصَماء الأعلى تطورا، إن وجهت للدمار. أو ماذا يفيد الناس من الآلات الموجهة لخدمة احتياجات القلة الثرية، بعيدا عن الأغلبية الاجتماعية الواسعة.
وليس يقتضى ذلك أن ننأى عن الخدمات التكنولوجية المتطورة على إطلاقها، ولكن أن نقترب بها حثيثا، ولكن على سبيل الشمول المـتأنّى، صوْب إشباع حاجات الأغلبية الاجتماعية العريضة، بعيدا عن العسكرة والدمار.
وإلا فلننتقل إذن من سيطرة الزراعة والاستخراج المعدنى على هيكل الإنتاج المحلى، إلى سيطرة التصنيع، ومن التصنيع البسيط، للمعقد فالأكثر تعقيدا، على أن يكون مفهوما أن كل ذلك ليس من أجل مراكمة الثراء للأثرياء، ولا لأباطرة الحرب والدمار، ولكن من أجل إشباع احتياجات الغالبية الاجتماعية الصاعدة، فيما نأمل، على سلّم الترقّى الإنسانى.
• • •
فى عوْد على بدء، نقول إن النصيب النسبى لقطاع الصناعة التحويلية من الناتج المحلى الإجمالى فى جمهورية مصر العربية كان يتراوح غالبا بين 13% و16% خلال العقود الأخيرة، بينما يتجاوز 50% فى البلدان حديثة التصنيع فى آسيا وأمريكا اللاتينية.
يبدو الشوط إذن جدّ طويل أمامنا، على أن نفهم، فى إعادة للخلاصة من القول، أن المقصود ليس مجرد التقدم الصناعى والتكنولوجى السائر صُعْدا نحو «اقتصاد الخدمات»، ولكنه التطور الذى يصب فى خدمة «الإنسان ــ الإنسان»، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «أنسنة التكنولوجيا».