روح الثورة فى قصيدة (شلى) - رشيد العناني - بوابة الشروق
الجمعة 18 أبريل 2025 11:07 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

روح الثورة فى قصيدة (شلى)

نشر فى : الجمعة 9 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 9 مارس 2012 - 8:00 ص

إنجلترا فى سنة 1819 ومصر فى سنة 2011

 

 

الثورة هى الثورة فى كل زمان وكل مكان. والروح الثورية هى روح خالدة تنتقل من عصر إلى عصر ومن بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل. قد تضعف أو تنام أو تتوارى، ولكنها أبدا لا تموت، ودوما تنبعث قوية، جبارة، فى اللحظة المواتية، من حيث لا يحتسب أحد، فتفاجئ الجميع. كل ما يلزم لبعثها هو أن «يجاوز الظالمون المدى» كما قال أبوالقاسم الشابى ذات يوم. وهذا ما حدث لنا فى مصر 2011.

 

ولكن ما علاقة هذا كله بقصيدة صغيرة، «سونيتّة» من أربعة عشر بيتا لشاعر إنجليزى من القرن التاسع عشر؟

 

الشاعر هو شلى Shelley (1792 ــ 1822)، من أعلام الرومانسية الإنجليزية التى كانت فى مجملها حركة ثارت على الأساليب والأخيلة الشعرية القديمة، ولم تخلُ من تأثر بالثورة الفرنسية وأفكارها السياسية التقدمية فى بعض جوانبها. عثرت على قصيدة شلى «إنجلترا فى سنة 1819» بمحض المصادفة قبل عام أو نحوه، بينما كنت أقرأ بعض المختارات من الشعر الرومانسى الإنجليزى. هالنى إغراقها فى سياسة عصرها، على الرغم من ميل الرومانسية إلى شعر الطبيعة والتأمل الذاتى فى الأغلب. غير أن ما هالنى أكثر من ذلك هو أننى أحسست فور انتهائى منها أننى ما كنت أقرأ إلا قصيدة عن مصر اليوم، عن مصر حسنى مبارك. ترجمت القصيدة معتزما أن أكتب عنها، غير أن الثورة سبقت، و«سطعت نورا فى زمننا العاصف» كما يقول شلى فى ختامها المفعم بالرجاء فى نهاية قصيدة تصور حالا شديد الحلكة. ها هو نص القصيدة، وسأتبعه ببعض التعليقات التى أود أن أشرك القارئ فيها.

 

«إنجلترا فى سنة 1819»

 

ملك عجوز، خرف، أعمى، مستهجن ومشرف على الموت ــ

 

أمراء، هم بقايا عنصر بليد ــ ينسربون ــ

 

وحلا من نبع موحل ــ فى مجرى الاحتقار العام،

 

حكّام لا يرون ولا يشعرون ولا يعرفون،

 

ولكن ــ مثل عَلَقَة ماصّة للدماء ــ ببلدهم المتهافت يلتصقون،

 

إلى أن يسقطوا ــ عميان وسط الدماء ــ من دون أن تكال لهم ضربة.

 

شعب جائع ومطعون، فى حقول غير محروثة.

 

جيش مغتال للحرية وضحية فى آن،

 

ــ مثل سيف ذى حدين لكل من يُشرعه ــ

 

يسن الشرائع الذهبية والدموية التى تغوى وتصرع.

 

دين بلا مسيح ولا إله ــ كتاب مُسْتَغْلَق.

 

مجلس شيوخ ــ بينما أسوأ ما عرفه الزمن من شرائع لم يستنسخ

 

قبور هذا كله، عسى أن ينبعث منها شبح ماجد

 

يسطع نورا فى زمننا العاصف.

 

ما على القارئ إلا أن يبدل بعض الكلمات بأخرى فتستحيل القصيدة من إنجلترا 1819 إلى مصر 2011 فى غير عناء. الملك المشار إليه هو جورج الثالث (اقرأ «رئيس» لتمصير السياق، والباقى سار من غير تغيير!) أما «الأمراء» «والحكام»، فضع مكانها حاشية الرئيس السابق السياسية والحزبية والأسرية من الطبقة الحاكمة الموغلة فى الفساد والإثراء غير المشروع، وما يتبع هو وصف مشترك بالغ الدقة فى تصويره للنظام المشرف على التهاوى. أما الشعب فهو حقا «مطعون وجائع» فى مصر مبارك كما كان فى إنجلترا جورج الثالث. فإذا انتقلنا إلى وصف الجيش المزدوج فهو «يغتال الحرية» ولكنه أيضا «ضحية»، فما أصدق هذا الوصف على حال جيشنا اليوم، أو بالأحرى المجلس العسكرى، الذى لايزال يتخبط فى إدارة البلاد منذ عام وتكثر الشكوك حول نواياه، إلا أنه أيضا «ضحية» الظرف الذى وجد نفسه فيه بدون اختيار ولا تمهيد، و«ضحية» كونه سليل النظام المطلوب منه أن يقوم على محو كل آثاره. وتمتد ثورة الشاعر إلى الأعراف الدينية السائدة، فتأتى عبارته القاسية «دين بلا مسيح ولا إله ــ كتاب مستغلق» عنوانا على مجتمع جرد الدين فيه من محتواه الأخلاقى، وتحول إلى شكليات، وجند فى خدمة الدولة، حتى أصبح حكرا على رجال الدين وكتابا «مستغلقا» لا يملك غيرهم حل طلاسمه، وكل يحل على هواه! وهكذا كان فى مصر مبارك أيضا. أما آخر ضربات الشاعر الثائر فيكيلها للبرلمان، «مجلس الشيوخ» (أو إن شئت «مجلس الشعب») فينعت قوانينه بأنها «أسوأ ما عرف الزمن» وأنها واجبة الإلغاء.

 

إلا أنه فى وسط هذا اليأس المطبق، هذا الظلام الجاثم على الأمة، هذا الموت، أو فى عبارة القصيدة «هذا كله قبور»، لا يفقد الشاعر الثائر الأمل، بل يدرك أن لابد أن يسطع ذات يوم من دياجير القبور نور يضىء الزمن العاصف. كتب شلى قصيدته متأثرا بما عرف «بمذبحة بيترلو» فى مدينة مانشستر فى شمال إنجلترا فى شهر أغسطس سنة 1819. حين هاجم سلاح الخيالة بسيوف مشهرة (اقرأ «موقعة الجمل»!) جمهورا من عشرات الآلاف احتشد للمطالبة بحقوقه فى التمثيل البرلمانى، فقتل 15 شخصا، وأصيب نحو 700. لم يسطع النور فى 1819 فى إنجلترا كما تمنى شلى، بل إن الشاعر والثائر نفسه مات غرقا فى صدر شبابه بعد ثلاث سنوات فقط من قصيدته والأحداث الأليمة التى كانت من ورائها.

 

إلا أنه فى مصر سطع النور فى 2011

رشيد العناني كاتب وناقد وأكاديمي مصري. درس الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة وعمل بها عدة سنوات. حصل على الدكتوراه من جامعة إكستر البريطانية، حيث يشغل منصب أستاذ الأدب العربي الحديث. آخر مؤلفاته الأكاديمية تشمل كتابا بالإنجليزية عن نجيب محفوظ عنوانه Naguib Mahfouz: His Life and Times صدر عن الجامعة الأمريكية في القاهرة سنة 2007. له أيضا دراسة مطولة صدرت في 2006 عن دار راوتلدج البريطانية في عنوان Arab Representations of the Occident تبحث في تاريخ اللقاء الحضاري بين الشرق العربي والغرب الأوروبي – الأمريكي منذ الحملة النابوليونية على مصر وحتى مطالع القرن الحادي والعشرين.
التعليقات