تأملوا فى كلمات العنوان! أليست مشوّقة؟ أليست حاثّة على قراءة المزيد؟ ألم تستثر فيك، عزيزى القارئ، نوعا من الفضول الذى هو ربما غير برئ؟
لكم يؤسفنى أن أخيب ظنك! فأقول لك إنى إنما أنوى أن أحدثك عن مؤتمر أكاديمى، وليس عما ذهب إليه فكرك. هل تتصورون مؤتمرا جامعيا وقورا يُعقد فى إحدى جامعاتنا العريقة أو الحديثة، أو تنظمه وزارة الثقافة، أو مجلسها الأعلى، أو ثقافتها الجماهيرية، حاملا هذا العنوان، وما وراء العنوان من محتوى؟ إنما يكون هذا عين الجنون، وأمر تقوم له الدنيا فلا تعود للقعود. أمر تتطاير معه تهم الخلاعة والمجون، والكفر والفسوق. أمر تُقدم فيه الاستجوابات البرلمانية، وتتكدس معه على مكتب النائب العام البلاغات الكيدية، المطالبة بحماية الأخلاق العامة والخاصة، الناعية انهيار القيم والتعليم، وفساد المهنة والجيل.
ومع ذلك فإنى إنما أحدثكم عن مؤتمر علمى، عنوانه الكامل هو: «الرغبة، اللذة، وخرق المحظورات: الأصوات الجديدة وحرية التعبير فى الأدب العربى المعاصر». المؤتمر عُقد فى الشهر الماضى (يونيو 2010) فى «جامعة سابينزا» Sapienza فى روما، العاصمة الإيطالية، والتى هى أكبر جامعات أوروبا قاطبة ومن أعرقها، حيث يعود تاريخها إلى مطلع القرن الرابع عشر. عُقد المؤتمر تحت رعاية «قسم الدراسات الشرقية»، برعاية الأستاذة إيزابيللا كاميرا دفليتو، اختصاصية الأدب العربى الحديث، ومترجمة العديد من آثاره إلى اللغة الإيطالية، مما دعا المجلس الأعلى للثقافة فى مصر إلى أن يكرّمها ضمن آخرين فى مناسبة أحد مؤتمراته عن الترجمة قبل سنوات قليلة. افتتح رئيس الجامعة شخصيا المؤتمر، وخصنا ــ نحن المؤتمرين ــ بواحدة من أبهى قاعات الجامعة نعقد فيها جلساتنا.
فمن كان المشاركون بالأبحاث والمداخلات؟.. نخبة لا تقل عن الأربعين من المختصين بالأدب العربى الحديث فى جامعات أوروبا وأمريكا، من الأوروبيين والأمريكيين ومن العرب المغتربين فى الجامعات الأوروبية، منهم الأساتذة الضالعون، ومنهم باحثو الدكتوراه المبتدئون، تجمعهم كلهم رابطة نبيلة تدعى «يورامال» EURAMALأو «الرابطة الأوروبية للأدب العربى الحديث»، أسسها أستاذ هولندى فى الأدب العربى اسمه «إد دو موور» Ed de Moor فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى ثم غاب من عالمنا قبل بضع سنوات، إلا أن الرابطة مستمرة، مزدهرة، تعقد كل عامين مؤتمرا لبحث قضية من قضايا الأدب، وتنمو عضويتها عاما بعد عاما، مستقطبة أعضاءً جددا يؤلف بين قلوبهم حب الثقافة العربية، خاصة أدبها الحديث والمعاصر.
دارت الأبحاث فى المؤتمر حول محظورات الكتابة فى الأدب العربى الحديث. كان الغرض هو الحديث حديثا علميا موثقا عن كل ما هو ممنوع على الأديب العربى المعاصر. كل ما هو محظور، أو محرّم، أو منهى عنه. كل ما هو خاضع للرقابة، سواء القانونية، أو المؤسساتية، أو السلطوية، أو العرفية، أو الدينية، أو حتى ما هو خاضع للرقابة الذاتية التى يلجأ إليها الكاتب تطوعا، وهربا من مساءلة كل الجهات السابقة أو بعضها.
دارت الأبحاث والمناقشات فيما دارت حول لاءات الكتابة الثلاثة الشهيرة: السياسة والجنس والدين. كيف تكون الكتابة عن السياسة فى ظل أنظمة القمع الشمولى؟ كيف تكون الكتابة عن الجسد والجنس، فى ظل سلطة مجتمعات ذكورية، بطريركية، تهيمن عليها الحساسيات الزائفة، والأعراف الكارهة لحق البشر فى اللذة والتمتع بالحياة. كيف تكون الكتابة عن الدين فى ظل مجتمعات تسيطر فيها المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، المسلمة والمسيحية، على النص الدينى وتفسيره، وتحتكر التفكير فيه، إلى حد هدر دم من يجرؤ على التفكير لنفسه والمجاهرة بفكره. تحت كل هذه القيود، وسط حقول المتفجرات هذه، كيف يتجنب الكاتب العربى الخطو فوق الألغام؟ ما هى التقنيات الفنية التى ينتهجها طلبا للسلامة؟ ما هى الاستعارات والكنايات والمجازات وأساليب التورية التى يلجأ إليها التفافا حول الرقباء، والمانعين من النشر، والمهددين بالسجن والقتل؟ وكأننا كنا نناقش قضية الديمقراطية فى الأدب، تماما كما تناقش فى الدوائر الغربية قضية الديمقراطية الغائبة وحقوق الإنسان المهضومة فى الدولة العربية.
وجاء المؤتمر بمن احتشد له من الباحثين والمبدعين ليؤكد انتصار الكاتب العربى والكاتبة العربية على جميع مضطهديهم، المرئيين وغير المرئيين. من الخليج العربى شرقا حيث بعض من أكثر المجتمعات والأنظمة العربية محافظة وتشددا إلى المغرب العربى غربا، ومن سوريا ولبنان شمالا إلى اليمن جنوبا، من أقدم المجتمعات على سبيل التمدن الحديث إلى آخرها فى اللحاق بالركب، ثبت أن الكاتب العربى والكاتبة العربية (ومن ورائهما القارئ العربى والقارئة العربية) لم يرضخوا للقيود، وإنما دائما ناضلوا من أجل زيادة هامش الحرية. من أجل حرية التعبير. من أجل حرية نقد المجتمع، حرية نقد الحاكم، حرية نقد التراث الدينى وغير الدينى، حرية تقويم التجربة التاريخية.
ناضلوا من أجل حرية اكتشاف الجسد والتلذذ بما ركبته فيه الطبيعة من سبل الفرح بالحياة. وقبل كل شىء حرية المرأة، المقموعة قمعا مضاعفا، كونها امرأة وكونها تعيش فى مجتمعات قامعة للجنسين معا، حرية المرأة فى امتلاك جسدها، واكتشافه والتعبير عنه من غير واسطة الرجل الذى عاشت قرونا ترى الوجود من خلال واعيته المفروضة عليها.
منذ ستينيات القرن الماضى وهامش الحرية آخذ فى الاتساع، بينما تتآكل الأصفاد، وتتقلص مساحات الممنوعات. وأتت الإنترنت فى العقدين الأخيرين لتفتح مجالا جديدا أمام كتاّب الشباب. مجال بعيد عن الرقباء، وعن مشاكل النشر المطبوع، مجال يحدث التواصل فيه بين القارئ والكاتب مباشرة، دون وسيط وعلى الفور. وانتشرت النوادى الأدبية الشبكية، والمدوّنات. حقا إن الإنترنت لم تنتج أدبا جيدا بعد، لكنها تساهم فى حرية النشر وحرية الكلمة وتضعف من سطوة الحظر على الفكر والقول.
استضاف المؤتمر، على عادة «رابطة يورامال» المنظمة له، عددا من الكتاب والكاتبات العرب الذين تصب جهودهم الإبداعية فى موضوع المؤتمر. فجاء من لبنان الروائى رشيد الضعيف والروائية علوية صبح، وجاء من باريس الكاتب التونسى المقيم فى فرنسا، حبيب سالمى. كما دُعى من اليمن الروائى وجدى الأهدل، إلا أن الدواعى الأمنية حالت بينه وبين السفر، فكان غيابه حضورا غير مباشر يصب فى موضوع المؤتمر.
تحدث كل منهم عن تجربته الإبداعية فنادى رشيد الضعيف بشىء من «الخفة» فى الكتابة العربية، فى مقابل الجدية والصرامة والحديث الدائم عن القضية. وقال إن أعظم كتب النثر العربى مثل «الأغانى» للأصفهانى والكثير من كتابات الجاحظ كانت تحتوى شيئا كثيرا من «الخفة» وكانت لا تتحرج من الكتابة فى الجسد والجنس ولا من تسمية أعضائه بأسمائها. أما علوية صبح فأكدت حق المرأة فى الكتابة الحميمة الحرة عن جسدها وعن جسد الرجل من منظورها وعن أخص خصائص العلاقة بين الجنسين على نحو ما انتهجت فى روايتيها «مريم الحكايا» و«اسمه الغرام».
وأما حبيب سالمى فتكلم عن خصوصية العلاقة بين الشرق والغرب ودعا إلى نهج تصالحى بين الحضارتين يقوم على التعايش والاحتياج المتبادل والإدراك لإنسانية الآخر وتماثله مع الذات، وهى الرؤية التى بلورها فى روايته الأخيرة، «روائح مارى كلير» المدرجة على قائمة الست روايات لجائزة البوكر العربية فى عام 2009.
كنت أستمع إلى الأوراق البحثية والمناقشات الحرة الصريحة التى لا تعرف فى العلم حياء ولا مقدسا.وكنت أتأمل فى السلاسة والطلاقة والإحساس بالأمان وخلو البال الذى يتكلم به المتكلمون ويصغى به المصغون. ومن وقت لآخر أحاول أن أتصور أن ينتقل هذا المشهد من جامعة سابينزا فى روما إلى القاهرة أو غيرها من العواصم العربية. أحاول، فتعيينى المحاولة، وتقصر قدرتى عن التخيل. حين يأتى هذا اليوم ــ وليس قبله ــ سوف نجد لأنفسنا موضعا تحت الشمس.