سمحت زيارة وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى للقاهرة الأسبوع الماضى بخروج أعراض مرض عضال تعانى منه النخبة المصرية، حاكمة ومعارضة، فيما يتعلق بأوهام حجم النفوذ الذى تتمتع به الولايات المتحدة فى تشكيل الشأن السياسى المصرى الداخلى إلى العلن. وأعرض هنا لخمسة من أهم تلك الأوهام.
الوهم الأول: أمريكا لديها كروت كثيرة يمكن بها تغيير المعادلات السياسية المصرية الداخلية.
ليس صحيحا، تصور البعض أن المساعدات العسكرية 1.3 مليار دولار، والمساعدات غير عسكرية 250 مليون دولار، يمكن لها أن تجعل متخذى القرار فى مصر يعيدون حساباتهم طبقا لما يرضى واشنطن. خلال عصر حكم الرئيس حسنى مبارك، ورغم الانصياع المصرى لواشنطن فى أغلب القضايا الاقليمية، لم يتردد مبارك من سجن الدكتور سعدالدين إبراهيم (صاحب جنسية أمريكية)، ومن بعده الدكتور أيمن نور. احتجت واشنطن، واحتج رئيسها حينذاك جورج بوش، واشتد غضب أصدقاء المعارضين المصريين فى الكونجرس، إلا أن مبارك لم يرضخ، وفقط أفرج عنهما عندما ارتأى له ذلك. حجم الناتج المحلى الاجمالى لمصر بلغ 230 مليار دولار العام الماضى، لذا لا تمثل المساعدات اليوم قيمة كبيرة ولم يعد لها تأثير فى حجم الاقتصاد المصرى. عندما بدأ تدفق المساعدات الأمريكية عام 1981، كانت قيمتها السنوية تبلغ 5% من الناتج المحلى الإجمالى لمصر، وأصبحت نسبة تلك المساعدات أقل من ربع بالمائة 0.25 % عام 2012.
العملية السياسية المصرية هى نتاج لتوازنات وأحلاف ومفاوضات ليس لواشنطن ولا غيرها دخل بها. لقد طلب كيرى من المعارضة المشاركة فى الانتخابات، فهل ستشارك؟ وطلب كيرى من مرسى التوصل لحلول وسط وقبول شروط صندوق النقد، فهل يقبل؟
•••
الوهم الثانى: أمريكا تستطيع انتشال الاقتصاد المصرى من أزمته
لا تستطيع واشنطن بكل مساعداتها، ولا بكل نفوذها داخل صندوق النقد الدولى أن تنتشل مصر سريعا من أزمتها الاقتصادية. قبول مصر لشروط الصندوق يعنى سياسات تقشفية كبيرة وهذا سيكون له تكلفة سياسية مرتفعة على حكومة الرئيس محمد مرسى. سياسات الصندوق وإجماع واشنطن ترفضان الاعتراف بمبدأ «العدالة الاجتماعية»، وما يتبعه ذلك من ضرورة تطبيق سياسات اقتصادية مختلفة تهتم بالعمال وصغار الفلاحين.
من ناحية أخرى، لا تستطيع واشنطن الضغط على دول الخليج لتقديم مليارات الدولارات لمصر. أظهرت خبرة السنوات الماضية أنه ورغم خصوصية العلاقات الخليجية ــ الأمريكية، إلا أن للخليجيين حساباتهم التى لا تستطيع واشنطن معها الضغط عليهم فى الاتجاه المعاكس. الكويت لا تنسى لمبارك المشاركة فى تحريرها من الاحتلال العراقى، والاماراتيون مرتبطون عاطفيا بمبارك منذ أيام الشيخ زايد، وكذلك السعوديون. وهذا إضافة للتخوفات من تضخم التيارات السلفية الإخوانية المحلية.
•••
الوهم الثالث: مصر تستفيد كثيرا من علاقتها الخاصة بأمريكا
ليس صحيحا، ففى عالم السياسة لا تقدم الدول لبعضها البعض مساعدات مجانية أو بدون مقابل، فالمصالح هى ما يجمع بين الدول، وهذه المصالح قليلها مستمر ومستقر، وأكثرها متغير وغير ثابت. واختار حكام مصر أن تكون شريكا استراتيجيا لواشنطن منذ انتهاء حرب أكتوبر، وحتى الآن. وتوفر هذه الشراكة للولايات المتحدة مصدر قوة فريدا، فمصر تتمتع بموقع جيو استراتيجى مميز، وتتحكم فى واحد من أهم الممرات المائية فى العالم. ودفع ذلك مايك مولين، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأسبق لتحذير الكونجرس من خطأ «تخفيض المساعدات العسكرية لمصر» مؤكدا أنها ذات قيمة عالية جدا لواشنطن، ولا تستطيع دولة أخرى تقوم بما تقوم به مصر من خدمة للمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط.
ولا يعرف الكثير من المسئولين المصريين ما هى مصالح القاهرة فى العلاقة الخاصة مع واشنطن.
•••
الوهم الرابع: علاقات جيدة مع إسرائيل تضمن رضاء واشنطن عن حكام مصر
ليس بالضرورة، فالإدارة الأمريكية تتبع مع الرئيس محمد مرسى نفس ما اتبعته مع المجلس العسكرى، وهو ما لا يختلف بدوره عما اتبعته مع نظام الرئيس السابق حسنى مبارك فيما يتعلق بالعلاقات الثلاثية التى تجمع مصر بإسرائيل وبالولايات المتحدة. التزام كل حكام مصر بمعاهدة السلام لم يمنحهم حصانة من توجيه الادارة الأمريكية انتقادات حادة بخصوص ملفات أخرى أقل أهمية مثل حقوق الانسان وضمان الحريات للأقليات والنساء.
نظام الرئيس مبارك احتفظ بعلاقات ممتازة مع إسرائيل، إلا أن ذلك لم يجنبه انتقادات أمريكية حادة على خلفية قضايا أخرى تتعلق بطبيعة حكمه الديكتاتورى، وموقفه من بعض القضايا الإقليمية مثل تقسيم السودان واستقبال الرئيس البشير فى القاهرة. موقف حكومة الرئيس مرسى من إسرائيل الواقعى لم يغفر له عندما طالب بالإفراج عن الشيخ عمر عبدالرحمن، ولم يشفع له عندما عارض التدخل الفرنسى فى دولة مالى.
•••
الوهم الخامس: أمريكا أتت بالرئيس محمد مرسى وتستطيع إزاحته إذا ما استدعت الضرورة
لم تشخصن واشنطن علاقاتها الاستراتيجية بأى فصيل سياسى فى مصر، لذا لم تتضرر العلاقة مع مصر من جراء التغير الذى حدث فى هوية حكامها خلال العامين الماضيين، سواء كان يحكم الرئيس مبارك، أو المجلس العسكرى أو الرئيس مرسى.
«الفائز الشرعى» كانت تلك هى كلمة السر داخل الإدارة الأمريكية أثناء تعاملها مع معضلة نتائج الانتخابات المصرية الرئاسية قبل إعلانها رسميا. وشهدت أروقة واشنطن وجهات نظر متناقضة بخصوص ما يجب عمله تجاه تطورات الأوضاع فى مصر خاصة بعدما تم الفرز فى اللجان الفرعية تحت إشراف قضائى، وتسليم نتيجة الفرز لمندوبى المرشحين. وكان لما أقدم عليه حزب الحرية والعدالة من إعلان النتائج بعد ساعات قليلة من إغلاق لجان التصويت، وإقدامه على نشر تفاصيل نتائج فرز اللجان الفرعية والعامة، وعرضها أمام الرأى العام المصرى والعالمى.
واشنطن لم تتدخل فى اختيار رئيس مصر، ولم تساعد أو تشارك فى ترجيح كفة اسم مرشح أو فريق على آخر. والحقيقة هى أنها لا تستطيع ذلك إن أرادت!
•••
وهكذا وبينما ترى واشنطن أن مصر والمصريين يصنعون واقعا جديدا يجب أن تتعامل معه بما يخدم مصالحها، نجد النخبة المصرية تنكر هذا الواقع وتنكر قدرة المصريين على صنعه، وتفضل أن تنغلق وتنفصل بنفسها على أوهامها.