نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى، تقول فيه إنه فى حين ينتظر البعض اليوم العالمى للمرأة لتقديم الورود الافتراضية، يرى آخرون/أخريات فى هذا اليوم مناسبة لاسترجاع تاريخ من القهر وتاريخ من النضال النسائى فى كلّ أنحاء العالم. مشددة على عدم جواز أن يكون نضال جيل المساواة مجزأً بل لابد أن يشمل كل أشكال التمييز ضد الفئات المختلفة... جاء فيه ما يلى.
ينتهز أغلبهم فرصة حلول الثامن من مارس ليقدّموا الورود الافتراضية والتهانى إلى النساء متجاهلين أنّ ما يحدث هنا وهناك (وآخرها المشروع المصرى لقانون الأحوال الشخصية)، مثير للقلق والمخاوف ومحفّز على الاستقرار فى الساحات والشوارع تعبيرا عن الغضب والاستياء من الأنظمة القمعية/ الأبوية/ الهيمنية التى تسعى منذ سنوات، إلى لجم الفتيات والنساء والعابرات/ين وتقليم أظافرهنّ وإعادتهنّ إلى بيوت الطاعة بعد أن «أفسدهنّ» مناخ الثورات، وتمّ التلاعب بعقولهنّ، وتزييف وعيهنّ فتجاوزن حدودهنّ وظننّ أنّهن فاعلات ورائدات ومالكات أمرهنّ وقراراتهنّ وأجسادهنّ... وإزاء هذا المدّ النكوصى لا يعتبر الثامن من مارس فى نظر المنغمسين فى هموم الناس، يوما للاحتفال «البــارد» والنشـاطيـّة «اللينــة والرخــوة» وSoftــcool فى الفنادق ذات الـ5 نجوم بل هو مناسبة تسترجع فيها النفوس الأبيّة تاريخا من القهر وتاريخا من النضال النسائى فى كلّ أنحاء العالم: فى المكسيك والولايات المتحدّة الأمريكية والبرازيل واليمن وسوريا وغيرها. ومادامت الشعوب تشكو داء النسيان فلا بأس بالتذكير بالمطالب القديمة وكذلك الجديدة.
ولأنّنا مللنا السرديات التى تنجزها بعض الجمعيات النسويّة والمراكز النسائية المتمركزة على ذاتها والضليعة فى إعادة إنتاج نفس ميكانزمات النظام البطريكى من احتكار للمواقع والخطابات وهيمنة وضرب للوصاية على الأخريات، وإصرار على الاستبعاد، والإقصاء فإنّنا أردنا أن نخصّ الأصوات الجديدة بهذه الافتتاحيّة مبرّرنا فى ذلك أنّها ساهمت فى تغيير المشهد، وإدخال براديغمات جديدة فصار لها حضور ملفت للانتباه فى مسار الحركات الاجتماعية وانتزعت بذلك الاعتراف. ورغم كلّ هذا التمكّن فإنّ هذه الأصوات الجديدة لاتزال فى نظر أصحاب القرار والمواقع، متهمّة بالفسوق والفساد و«قلّة التربية والوعى» وهى مدانة تعتدى على «الأخلاق الحميدة» فهى «الجيل الخطأ».
يصرّ أهل السياسة وأهل الإعلام وأهل القانون والمنتمون إلى المؤسسة الأمنية وغيرهم من المستفيدين من وضع استشرى فيه الفساد على تسييج هذا الجيل فى دائرة تُهيمن عليها الأحكام المسبقة والصور النمطية والنزعة الأخلاقاوية. فهذا الجيل ارتكب الخطيئة حين تجاهر بما ينافى الأخلاق الحميدة وكشف المستور، وعبّر بلغته عن وضع متعفّن تقاطعت فيه الهيمنة الأبوية مع الهيمنة الاقتصادية مع الهيمنة السياسية مع الهيمنة الثقافية... وتشابكت فيه المصالح الكولونيالية مع المصالح الذاتية والمصالح الحزبية وغيرها. إنّه جيل تجرّأ على تسمية الأشياء بمسمياتها دون تنميق أو توشية وصاغ خطابا بليغا يفضح اللامرئى للعموم... إنّه جيل ينبذ الاستعارات والترميز فيعبّر عن الواقع الفجّ دون استعمال مشرط جراحة التجميل فيستبدل «بلغ السيل الزبى» بـ«فلقطنا» ويستعيض عن «ضاق صدرى»... بـ«كرّزنا».
إنّه جيل يفكّر فى الغالب، خارج الصندوق Out of the Box وخارج الأطر التى وفرتها النسويّة، القومية، الاشتراكية... وبعيدا عن التسييج الحزبى أو الجمعياتى النسوى وغيره، يتمرّد على الحدود التى يفرضها حرّاس الأخلاق والنقاء «والطهرانية» والقيم وأحادية النظرة والتصوّر فينزّل نضاله فى إطار التعددّ والغيرية والتنوع والاختلاف وثقافة الحقوق وقيم الحرية والمساواة والكرامة والعدالة... المعمّمة. والمساواة التى ينادى بها هذا الجيل لا بدّ أن تشمل الجميع وأن لا تقتصر على المساواة الجندرية بل تتجاوزها إلى المساواة خارج محدّدات الطبقة والسنّ والفقر والاحتياجات الخاصة والعرق والاثنية والاختيارات الجنسانية والدين والأيديولوجيا وغيرها. فلا معنى لنضال مجزأ أو نخبوى أو يسير وفق أولويات إذ يتعيّن التحرّك ضدّ كلّ أشكال التمييز التى تحول دون تحقق المواطنية التامة للجميع: التمييز ضدّ السود، أصحاب وصاحبات الاحتياجات الخاصة وعاملات/ين المنازل والمهاجرات/ين وعاملات/ين النظافة وصغار الفلاحين والعاملات الفلاحات وغيرهن من الفئات الهشّة.
تلتحم هذه المجموعات التى امتلكت الصوت ومثلت نفسها وجدّدت أشكال المقاومة بكلّ الفئات التى تعانى من القهر والاستغلال والتجهيل الممأسس والتجويع... فلا يلهيها الصراع على الزعامات والكراسى والمواقع عن الأهداف المرسومة لأنّ صراعها هو ضدّ الفقر والفساد والمحسوبية وهدر كرامة المطحونين نتيجة سياسات نيوليبرالية فاشلة وعولمة قسرية وأشكال جديدة من الاستعمار. ولأنّه جيل متصالح مع ذاته وجسده فإنّه لا يخشى الإفصاح عن غيريته أو قلقه الهووى فلا ينافق ولا يتجمّل ولا يمتثل للمعايير والقيم التقليدية. فما يخجله ليس المثلية ولا العبور الجنسى و... بل نهب الخيرات واستغلال النفوذ واستغلال الكادحين/ات... ولا يزعجه الصراخ ولا اللعن ولا استعمال الكلمات النابية فواقع الفساد والنهب والقمع والنفاق أحقّ بأن يدان.
جيل المساواة إدماجى فى الغالب يحترم حقّ الجميع فى التعبير والتفكير والاحتجاج والمطالبة بالتغيير والمقاومة ولذلك يصعب على من لم يعش هذه التجارب الفريدة أن يفهم الديناميكية الجديدة التى تجعل الحديث عن اليوم العالمى غير متنزل فى إطار المطالبة بالحقوق النسائية فحسب: إنّه يوم الإعلان عن الغضب وتجديد العهد مع النضال وهو نضال يتجاوز النساء إلى الفتيات والفتيان، والتونسيات إلى المهاجرات واللاجئات... يساهم فيه الجميع: النساء والرجال والعابرون/ات والكويريون وغيرهم من الفئات التى تسعى إلى تغيير الحاضر وصناعة المستقبل.
ويمكن القول بعد إرهاصات تشكّل الحركات الجديدة كالحركة النسوية السوداء التونسية والحركة النسائية العمّالية والحركة الكويويرية وغيرها أنّ النضال المشترك ضدّ فرض الوصاية وكلّ أشكال الهيمنة والقمع قد دخل منعرجا جديدا فطوبى لمن وعى وأبصر.