بعد فترة قصيرة من رحيل الملك السابق فاروق التقى جمال عبدالناصر وبعض من رفاقه فى مجلس قيادة الثورة بالسفير الأمريكى كافرى حول عشاء استكشف فيه كل طرف توجهات الآخر وتوقعاته. وكان كافرى مرحا وودودا وكان الضباط الأحرار يشعرون بالأمل فى علاقة طيبة مع أمريكا، لكن وزير الخارجية دالاس زار مصر فى العام التالى، وقدم إملاءات أمريكية ظهر فيما بعد أنها لم تكن قابلة للنقاش. كانت الإملاءات تتلخص فى أمرين لا ثالث لهما الصلح مع إسرائيل والانخراط فى أحلاف غربية تهدف لتطويق الكتلة الشرقية (كانت حينها الاتحاد السوفييتى).
لم يرفض عبدالناصر التفاهم لكنه طلب حلا للمشكلة الفلسطينية على أساس الحق العربى ونبه إلى أن شعور مصر بالخطر من إسرائيل المجاورة كان أكبر من الشعور بالخطر من الكتلة الشرقية البعيدة، رفض الدخول فى سياسة الأحلاف، وأكد رغبة مصر فى صداقة الغرب وحاجتها للبناء والدفاع عن النفس. ولم يعجب ذلك الأمريكيين ومنذ ذلك التاريخ ظلت مصر ومازالت حتى الآن تصارع الإدارة الأمريكية معركة بعد معركة فى سبيل استقلال الإرادة الوطنية وبناء وطن عصرى متقدم.
فى عام 56 تظاهرت أمريكا بالوقوف مع مصر ضد العدوان الثلاثى وتبين فيما بعد أنها كانت تحول دون عودة بريطانيا إلى المنطقة، وفى صباح 5 يونيو 67 انطلقت الطائرات الأمريكية المطلية بألوان الطيران الإسرائيلى ونجمة داود من قاعدة هويلس بليبيا يقودها طيارون أمريكيون يهود فضربت مطارات مصر وأكملت الرحلة إلى إسرائيل وحسمت مؤامرة اصطياد الديك الرومى لصالح إسرائيل. وفى 73 دخلت أمريكا الحرب مرة أخرى ضد مصر إلى جانب إسرائيل حين رصدت مواقع الجيش المصرى، ومررت موقع المفصل للقوات الإسرائيلية وأتاحت عملية الثغرة الشهيرة، بينما أقامت جسر إمدادات جوى لتعويض خسائر إسرائيل فكان يفرغ حمولته فى شمال سيناء لتدخل الأسلحة إلى العمليات العسكرية مباشرة ويمنع النصر المصرى، واضطر السادات لقبول وقف إطلاق النار قائلا: «أنا لا أستطيع أن أحارب أمريكا». وحتى عندما جنحت مصر للسلم ألقت أمريكا بكل ثقلها خلف إسرائيل فى مباحثات السلام وخرجت مصر بالشروط المجحفة فى كامب ديفيد. ثم فرضت أمريكا معونة سنوية كان ظاهرها السخاء وباطنها قيد من نوع آخر للإرادة المصرية.
وخلال ثلاثين عاما من حكم مبارك البليد دار صانع القرار فى الفلك الأمريكى، استمرأ القروض ودخل اتفاقيات الكويز، تعاون فى رفع الدعم وبيع الأصول وانفتحت الأسواق للمنتجات الأجنبية تخنق الصناعة المصرية. وانجرفت مصر إلى معارك تفتيت العالم العربى التى بدأت بالعراق ووقفت عاجزة أمام مؤامرة تقسيم السودان وشلت إرادتها فى القضية الفلسطينية فلم يعد لها إلا ترتيب المشاورات التى لا تنتهى وتبادل قوائم المطلوبين والإرهابيين.
•••
إنما ساهمت الإدارة المصرية بدورها فى هذه العلاقة الملتبسة، ظل الشعب المصرى يختزن الضيق من حكم الاستبداد ومن الفساد الشديد والفقر الأشد فى الرؤية والطموح. وراح المصريون ينظرون بأسى وحسد لأمم تتقدم وشعوب تتطور بينما يعيش أغلبهم تحت خط الفقر فى بيوت مهدمة وشوارع غير ممهدة وبنية تحتية متهالكة ونسى الناس مظاهر النظافة أو الجمال، وتنافست الدولة مع أشد أشكال الخطاب الدينى نكوصا تلك التى أفرزتها ثقافة الهزيمة وروجها أدعياء الإسلام، فانتشرت أشكال من الدعوة تشجع على ممارسات بدائية للتدين أقتصرت على القشور بينما تراجعت مستويات الصحة والتعليم إلى أدنى صورها.
كان لابد للمصريين أن يتململوا وأن يثوروا على الاستبداد طلبا للعدالة والتقدم وطموحا لأن ترتقى مصر بين الأمم كما يحق لها. لكن المخططات الأمريكية كانت لهم بالمرصاد فبمجرد أن اشتعلت الثورة فى شوارع مصر وجهت الولايات المتحدة طعنة غادرة إلى ظهر المصريين فتدخلت كما تؤكد مصادر عدة ليتم تدوير الأمور لصالح الإخوان وترجيح كفتهم وتسهيل استيلائهم على السلطة. ثم فتح المجال لجميع أشكال التيار الدينى لتتقدم الصفوف وتختلس الثورة والقوة فخرج القتلة من السجون إلى استوديوهات التليفزيون وأعادوا تشكيل جماعاتهم. ولقد أضاعت فصائل الثورة الأصيلة فرصا نادرة وأوقاتا ثمينة بين عدم التصديق وتكذيب النفس والتمسك بنداء الإيد الواحدة، بينما اندفع دعاة التيار الدينى يرسخون من وجودهم على الساحة ويجرون مفاوضاتهم فى الخلف مع من كانت بيدهم الأمور.
وبدا كما لو أن مؤامرة الشرق الأوسط الكبير تنجح فانطلقت مرحلة أخرى قادها حلف الأطلنطى فى ليبيا انتهت بذبح ثانى زعيم عربى على الملأ ثم تحركت المؤامرة نحو سوريا بتمويل عربى وجنود إسلاميين ومخطط أمريكى أوروبى لوأد آخر معاقل الممانعة فى سوريا مستغلين سجل القمع، تماما مثلما استغل سجل صدام الديكتاتورى لتبرير ذبحه وذبح مليون عراقى والقضاء على مستقبل العراق.
ولقد تشابه المشهد المصرى فى منتصف القرن الماضى مع نظيره فى بدايات هذا القرن. فبعد الحرب العالمية كانت القوى الوطنية فى مصر منقسمة وكانت شبه غائبة عن متغيرات المسرح الدولى فلم تكن تعنى به إلا بما يلمس قضية الجلاء، وكانت متطلبات التغيير الاجتماعى تضغط بشدة وكان الأمريكيون ينظرون وينتظرون لتسقط درة أخرى من درر التاج البريطانى فى حجرهم، وعندما تقدم عبدالناصر ليربط سياسة مصر الخارجية بطموحات النمو والنهضة وقف الأمريكيون ضد مصر. وفى هذا القرن يتكرر مشهد انقسام القوى الوطنية المصرية وتغيب الرؤية الاستراتيجية للعلاقة بين متغيرات العالم ومتطلبات التطور الاجتماعى. ومرة أخرى يقف الأمريكيون على الجانب يرصدون ويتأهبون لالتقاط الثمرة وقد تصوروا أن وسيلتهم لها هذه المرة هى حكم الإخوان، وقد تحورت الإملاءات قليلا عبر نصف قرن إلى استمرار معاهدة السلام مع إسرائيل والدخول فى منظومات دينية وطائفية يجرى تشكيلها لتطويق كتلة شرقية جديدة يمثلها الصعود المضطرد للصين والهند إلى جانب روسيا الحديثة.
لكن خطأ المؤامرة الأمريكية نبع من سطحية التحليل والانبهار الأجوف بظاهرة التدين المصرى والخلط بينها وبين التيار الدينى الرجعى الذى كان، وسيظل غريبا عن الهوية المصرية الحقيقية. وها هم المصريون يخوضون معركة عنيفة ضد الدولة الدينية من أجل الحرية والتقدم. لم يفهم الأمريكيون أو ناصحوهم أن قوام الدولة المدنية عنصر أصيل فى تكوين الهوية المصرية المعاصرة وأن السيطرة على مصر لا يمكن أن تأتى من خلال جماعات التخلف الدينى وأنه لو أراد الأمريكيون علاقة مفيدة مع مصر فقد كان ينبغى عليهم مخاطبة البرجوازية المصرية ذات الطابع المدنى الوطنى والتى تستطيع أن تساهم بعقلانية فى علاقات دولية متوازنة ومسئولة تحترم مصالح الآخرين بينما لا تفرط فى مصالح الشعب المصرى.
•••
إن التصريحات الأخيرة للدكتور سعد الدين أبراهيم والتحليلات التى أفضى بها الأستاذ هيكل مؤخرا تؤكد أن الإدارة الأمريكية كانت ضالعة فى عملية تحويل السلطة فى مصر باتجاه الإخوان المسلمين فى أوسع عملية عرفها المصريون لسرقة ثورتهم ومستقبلهم وآمالهم فى حياة حرة كريمة. ولا شك أن الغضب المصرى المتصاعد نحو من سرقوا ثورة مصر سوف يتعاظم يوما بعد يوم ازداد فشل الإخوان وتضاعف استبدادهم وضربهم بكل قواعد القانون عرض الحائط. وليست هذه أول مرة ولن تكون الأخيرة التى توجه فيها الولايات المتحدة طعنة فى الظهر للشعب المصرى، ذلك الشعب الذى خرج عن بكرة أبيه فى السبعينيات يرحب بنيكسون فكان نصيبه استمرار المؤامرات. إن ذاكرة الأيام ستظل تردد صدى الضربات الموجعة التى وجهتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لدولة صغيرة كمصر كل ذنبها أنها تريد أن تتقدم وتأخذ لنفسها موقعا تحت الشمس يليق بتاريخها وتراثها وتطلعات شعبها ونحن فى مصر لا ينبغى لنا أن ننسى ما فعلوه بنا.