تم الإعلان فى إبريل ٢٠١٨ عن بدء تنفيذ «نظام التعليم الجديد» فى العام الحالى ٢٠١٨، أى بعد خمسة أشهر من الإعلان عنه، وبالتعميم على جميع المدارس الحكومية والخاصة من دون أى مرحلة تجريبية. هل يمكن أن ينجح هذا الإصلاح؟ ما هى المحاور الرئيسية له وماذا نعرف عن فرص نجاحها وأثرها المحتمل؟ هل نحن مقبلون على طفرة تعليمية رائعة وانطلاقة جديدة أم أننا نمضى نحو قرارات مصيرية مثل تغيير الدراسة بين اللغة العربية والإنجليزية دون تدبر للعواقب أو توافق مجتمعى؟ أم أننا أمام هدر للموارد وشراء «لتابلتات» لن يسفر عنه أى تغيير يذكر فى التعليم فى مصر؟ وإلى متى يظل القرار التعليمى يمضى دون أى حوار مجتمعى أو رقابة أو مساءلة حقيقية؟ هل تطمئن الطبقات الميسورة على أولادها فى مدارسهم الخاصة ولا تعبأ بما يحدث لتعليم الـ٩٠٪ من الطلاب فى المدارس الحكومية؟ هل يمكن أن ينهض مجتمع أو اقتصاد ومعظم موارده معطلة ومكبلة ومحبطة؟
وها قد اقتربنا من التنفيذ فى غياب نقاش جاد حول محاور الإصلاح كان يجب توضيح عدد من النقاط المهمة التى يجب أن يعنى بها كل من يهتم بالشأن العام وبالأجيال القادمة. ويجب الإشارة إلى أنه حتى كتابة هذا المقال لا توجد أى وثيقة رسمية تشرح النظام الجديد. وكان على المواطنين والباحثين أن يعتمدوا على ما هو منشور فى صفحة الوزير على الفيسبوك وما صرح به فى لقاءاته الإعلامية. وتشير المعلومات المتاحة لعدد من التغييرات يعد من أبرزها ما يتعلق بالتكنولوجيا وطرق التقويم واستخدام اللغات الأجنبية. ونركز فى هذا المقال على التكنولوجيا كمدخل أساسى فى الإصلاحات المعلنة.
***
ويعد أبرز ما تم الإعلان عنه من تغييرات هو التعاقد بالفعل على شراء مئات الآلاف من الأجهزة اللوحية (التابلت) لتوزيعها على المعلمين والإداريين والطلاب الملتحقين بالصف الأول الثانوى عام ٢٠١٨، الذين سيطبق عليهم نظام الثانوية العامة الجديد والامتحانات الإلكترونية. وسيحصل الطلاب على الكتاب المدرسى الورقى بالإضافة إلى «التابلت» المحمل بمناهج إثرائية رقمية ضخمة تمت ترجمتها للغة العربية. وحتى إذا افترضنا أن هذا المحتوى غنى ومناسب وأن الترجمة سليمة وتمت مراجعتها وتوحيدها فى هذا الزمن القياسى، يظل غريبا أن نفترض أن مجرد تحميل التابلت بمواد إثرائية سيكون له أثر على التعلم بين الطلاب، فإن أى طالب فى دولة غنية يمكنه أن يحصل بسهولة على مثل هذا المحتوى ولكننا لا يمكن أن نفترض أن هذا يؤدى بالضرورة لتعلم أفضل أو لتنمية مهارات بعينها أو لعادات إيجابية أو أن الطلاب سيهتمون بهذا المحتوى أو يفهمونه أو يخصصون له من وقتهم. ونعلم من تجربة مصر نفسها أن توفير شرح المناهج كلها سواء على التلفاز أو على الإنترنت لعقود مضت لم يؤد إلى لجوء الطلاب إليها بل ظل اعتمادهم على الدروس الخصوصية يتنامى، ومن دون تطور حقيقى لمخرجات التعلم والمهارات. وقد لفت عدد من المعلقين النظر إلى العوائق الكثيرة لتطيبق مثل هذا الاتجاه نحو الاعتماد على التكنولوجيا فى جميع المناطق المحرومة والتى قد لا تصلها شبكة الإنترنت أو حتى الكهرباء بصفة منتظمة وقد لا يجيد معظم معلميها وإدارييها التعامل مع التكنولوجيات الجديدة. ويمكننا أن نتساءل أيضا هل من المناسب الاستثمار فى التكنولوجيا بينما تعانى الكثير من المدارس من قصور شديد فى نواحى أكثر إلحاحا مثل وجود مقاعد مناسبة للأطفال أو صيانة دورات المياه أو إعداد غرف المعلمين.
ولكن السؤال الأهم الذى يجب أن نطرحه هو لماذا نلجأ أصلا لمثل هذا التطوير وما هى الدراسات والتجارب السابقة التى قد تدفعنا للاستثمار بهذا القدر فى مثل هذه التقنيات؟ هل سيؤدى هذا لنواتج تعلم أفضل ويعالج المشكلات الرئيسية فى المنظومة؟ ولم نجد أبحاثا علمية تدفع بأن إدخال التكنولوجيا يؤدى وحده لتحسين التعلم. ولا تزال دولا متقدمة تعليميا لا تعتمد على التكنولوجيا بشكل واسع فى مدارسها، وتقاوم إغراءات الشركات الكبرى التى تسعى دوما للدفع فى الاتجاه. ومما يقف عائقا أيضا أمام اعتماد كبير على تكنولوجيا المعلومات فى الدول الغنية وجود قوة بشرية من معلمين وموجهين وإداريين «من المدرسة القديمة»، خاصة الأكبر سنا منهم، لا يحبون ولا يؤمنون، وقد يكونون لا يستطيعون، أن يستخدموا هذه التكنولوجيات بكفاءة تتيح لهم قيادة الطلاب فيها. ولا تستطيع هذه الدول تخطى معلميها أو المغامرة بخسارة الكثير منهم لما هو معلوم من أن التدريس مهنة شاقة ونسب الخروج منها كبيرة، مهما كان أجرها مجزيا وعقودها طويلة الأمد فى معظم الدول الغنية.
***
ومن منظور تكافؤ الفرص بالذات، يعتقد معظم الباحثون أن الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا يزيد من الفروق التعليمية والاجتماعية مما يخلق أنواعا من «الفجوة الرقمية» (Digital Divide). وظل الكثيرون يعقدون الأمل على التكنولوجيا لدعم تكافؤ الفرص على أساس أن توفير التكنولوجيا المتقدمة للأفراد الأقل حظا سيمكنهم من الوصول لمستويات من المعرفة والمهارات تماثل الأكثر حظا. ولكن سرعان ما بدأت التجربة الفعلية والدراسات توضح مدى تأثير السياق الاقتصادى والاجتماعى على «كيفية» استخدام التكنولوجيا حتى إذا توافرت. ومن أشهر الأبحاث التى أجريت فى هذا الصدد دراسة عن استخدام التكنولوجيا فى المدارس فى ولاية كاليفورنيا الأمريكية والتى وجدت أنه حتى فى وجود مستويات متماثلة من توافر التكنولوجيا فى المدارس، توجد فروق كبيرة بين طريقة استخدام الطلاب والمعلمين للتكنولوجيا بين المدارس الأفقر والمدارس الأغنى. وحلل الباحثون مختلف العوائق التى تقابل المدارس الأقل حظا، والتى يمكن أن نتخيل أضعافها فى أفضل مدارسنا الحكومية. وخلص الباحثون إلى أن إدخال التكنولوجيا للمدارس لا يساعد على تخطى أو تقليل الفوارق التعليمية بين هذه المدارس بل يؤدى إلى زيادتها، ووجدوا أن استخدام التكنولوجيا فى المدارس الأغنى يتركز على البحث والتحليل بينما ينحصر فى مهارات بسيطة ويسبب ارتباكا وتشتيتا للجهود فى المدارس الأفقر. وتصادف أن أحد مؤلفى هذه الدراسة الشهيرة أجرى بحثا مطولا عن التكنولوجيا فى المدارس فى مصر، يوضح القصور فى التصور العام والتطبيق وكيفية توزيع الإنفاق على التكنولوجيا. وبشكل أعم يوضح البحث أنه بالرغم من أن المشكلات الأساسية فى نظام التعليم لم يتم معالجتها، فإن الحكومة المصرية خصصت موارد ضخمة لإدخال التكنولوجيا الجديدة إلى المدارس منذ أواخر التسعينيات بلا عائد يذكر تقريبا على جودة العملية التعليمية ومهارات الطلاب، وهذا هو تحديدا الوضع الذى يجب أن نتفاداه الآن.
وباختصار فإن الاستثمار فى التكنولوجيا على الرغم من كلفته العالية لا يتوقع أن يكون له أثر على المشكلات الرئيسية فى النظام وأهمها الارتقاء بمهارات القراءة والكتابة والرياضات والعلوم والتى يجب أن يتم علاجها بشكل منهجى واستراتيجيات محكمة وإعداد جيد بدلا من تبديد الجهود والوقت والمال العام فى اتجاهات أخرى.