نشر موقع World Politics review مقالا للكاتب برونو تيرتراس يرى فيه أنه على الرغم من انتشار أفكار العولمة إلا أن الدول والحكومات والمواطنين يرون أن الحدود مهمة ولا غنى عنها، ويشير إلى أن معظم النزاعات الحدودية الحالية هى أعراض لمشكلة النزاعات القائمة على الهوية.. نعرض منه ما يلى. فى تسعينيات القرن الماضى، عندما كان الاتحاد السوفيتى ينهار وينقسم إلى دول، تنبأ المنظر اليابانى كينيشى أوهماى بأن الجنس البشرى على عتبة «عالم بلا حدود». بعدها بعقدين، بدا أن العالم يسير وفقا لما رآه أوهماى، وبدأت دول وأقاليم بتخفيف القيود المفروضة على تنقل الأفراد والبضائع.. ولكن، فى الآونة الأخيرة، بدأنا نشهد عكس ذلك، وواجهت الحدود عبر الدول ثلاثة تحديات فى القرن الواحد والعشرين: الإرهاب والهجرة والوباء. دفعت هذه التحديات الدول إلى فرض قوانين أكثر صرامة على الحدود، وبالأخص فى الدول التى يحكمها القادة القوميون والشعبويون الذين لطالما طالبوا بوجود إجراءات حدودية قوية. وفى نفس الوقت، لا تزال الحدود لها جاذبيتها للحكومات المختلفة، وخاصة للدول المستقلة حديثا والحريصة على الدفاع عن سيادتها، وأيضا للحكومات الراسخة التى تسعى إلى استكمال عملية بناء الدولة إلى دولة حديثة وتأكيد حدودها.
على الرغم من أن الحدود ينظر لها من الناحية الجغرافية، إلا أنها بطبيعتها سياسية، بل ويتم تسييسها بشكل كبير. وبالتالى فهم الحدود سيعنى فهما أفضل للشئون العالمية المعاصرة.
•••
لطالما ردد ترامب فى حملته الانتخابية جملة «إذا لم يكن لديك حدود، فلن يكون لديك بلد». لقد كان محقا، أو على الأقل لم يكن مخطأ تماما. فإن أحد المكونات الرئيسية للدولة هو وجود أرض محددة تمارس عليها السيادة. كان هذا هو الحال منذ عام 1648، عندما أنشأت معاهدة وستفاليا النظام الدولى الحديث.. على الرغم من أنه غالبا ما تكون الحدود مكونا أساسيا للدولة، إلا أنها ليست شرطا أساسيا. ففلسطين على سبيل المثال لها صفة مراقب دائم فى الأمم المتحدة ومعترف بها من 139 دولة على الرغم من أن حدودها غير محددة. كما أن الحدود ليست شرطا كافيا لإقامة دولة، فعلى سبيل المثال تايوان وكوسوفو لديهما الشروط الكافية لإقامة دولة لكنهما تحظيان باعتراف محدود.
العالم الآن مليء بحدود يعود تاريخ العديد منها إلى الفترة ما بين أواخر التسعينيات وأوائل القرن العشرين. وآخر حدود تم إنشاؤها هى حدود جنوب السودان. الآن تقريبا العالم كله مقسم إلى دول أو أشباه دول. معظم الأراضى بها حكومات، حتى تلك المناطق التى تعتبر «مساحات غير خاضعة للحكم» تقع رسميًا ضمن اختصاص حكومة أو أخرى، وعندما تكون الدولة غائبة، تميل الجماعات غير الحكومية لملء الفراغ. ومع ذلك، فإن قارة واحدة بأكملها قد أفلتت حتى الآن من الدول وإقامة الحدود: أنتاركتيكا.
على الرغم من أن عمليات السيطرة عنوة على الأراضى قلما تحدث الآن، إلا أننا شاهدنا بعضا منها مثل ضم إسرائيل لهضبة الجولان. كما أن المحو القسرى للحدود نادرا ما يحدث، مثلما حاول تنظيم داعش محو الحدود بين العراق وسوريا أو ضم روسيا لجزيرة القرم. وهناك عمليات قليلة أيضا من التبادلات الإقليمية، على سبيل المثال فى 2016 عندما تبادلت بلجيكا وهولندا أجزاء من أراضيهما.. لكن بشكل عام فى العالم، فى حالة وجود نزاع، تفضل الدول أن يسود الوضع الراهن.
•••
الخلافات الحدودية هى أعراض المرض وليس المرض نفسه. هناك العديد من الخلافات الحدودية بين الدول، وللأسف لا تلجأ معظم الدول إلى التحكيم الدولى لحلها. لكن على الرغم من ندرتها، فإن قرارات هذه المؤسسات تضع سوابق قانونية، وعندما تقبلها الدول تقل احتمالية نشوب حرب على الحدود بينهما. من المثير للاهتمام أن القليل من النزاعات التى تحدث على الحدود قد نعتبرها حروب حدودية حقيقية: فالاقتتال على الحدود يحدث فقط إذا كان هناك إقليم به موارد أو يوفر موقعا استراتيجيا. على النقيض من ذلك، فمعظم النزاعات الحدودية اليوم ليست صراعات على امتلاك الموارد، ولكنها أعراض لنزاعات قائمة على الهوية أو يتم استغلالها لهذا الغرض. والنزاعات الحدودية القائمة على أساس الهوية من الصعب حلها.
من السهل ملاحظة ذلك فى شرق البحر المتوسط، فى الخلاف القائم على جزيرة قبرص المقسمة بين تركيا وجمهورية قبرص. وفى القوقاز، لم تتفق أرمينيا وأذربيجان، اللتان بينهما تاريخ طويل من الحروب والمذابح، على الحدود بينهما بعد عشرين عاما من حصول كل منهما على الاستقلال. وقد يبدو أن الحرب الأخيرة التى نتج عنها سيطرة أذربيجان على إقليم كاراباخ قد حلت مسألة السيطرة على الإقليم ولكنها لم تعالج بشكل قاطع مسألة الحدود.
على الرغم من أن هذه النزاعات الحدودية هى أعراض لمشكلة وليس المشكلة نفسها، إلا أنها قد تغذيها الانقسامات وتؤدى إلى حروب.
•••
مستقبل النزاعات الحدودية ستكون بحرية. بينما تم التفاوض على الحدود البرية للعالم وإعادة التفاوض بشأنها وتحديدها إلى حد كبير، تم ترسيم 180 حدًا بحريًا فقط، من إجمالى 450 تقريبًا المطلوبة. تأجج القومية والبحث عن الموارد من أسماك ونفط وغاز النزاعات الحدودية البحرية.. اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والتى دخلت حيز التنفيذ عام 1994، تحدد نظريا القواعد الخاصة بكيفية رسم الحدود. ولكن إلى جانب حقيقة أن بعض الدول، مثل تركيا، لم تنضم إليها بعد، فإن قواعدها معقدة، وقد تبنت الدول الفردية تفسيرات مختلفة لها.
فى آسيا، هناك العديد من النزاعات الحدودية البحرية الساخنة. فهناك نزاع بين اليابان وروسيا على جزر الكوريل، وهى أرخبيل بركانى يمتد فى بحر أوخوتسك فى شمال المحيط الهادئ، منذ عام 1945. والخلافات حول جزر سينكاكو، وهى جزر تسيطر عليها اليابان فى بحر الصين الشرقى والتى تزعم الصين وتايوان ملكيتها. وجزر دوكدو، التى تسيطر عليها كوريا الجنوبية ولكن تطالب بها اليابان أيضًا. وهذه الخلافات أعيد إحياؤها مؤخرا.
الصراع على بحر الصين الجنوبى، أحد أهم الممرات البحرية فى العالم، قد يعد أكبر النزاعات البحرية الحالية: فهناك سبع دول لديها مطالبات فى البحر والصين تدعى ملكيتها لمعظم البحر. وهناك نزاع يونانى تركى مشتعل شرق البحر المتوسط. تطالب اليونان بالتنفيذ الصارم لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والتى ستعطى مناطق اقتصادية كبيرة لجزرها على حساب تركيا، التى ليست من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لهذا السبب. فى عام 2019، وقعت تركيا اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة البحرية مع ليبيا والتى ألغت المزاعم اليونانية. ثم ردت أثينا على هذه الخطوة من خلال التفاوض على اتفاقية ترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة مع مصر فى العام التالى. وفى الوقت نفسه، قالت أنقرة بأن الحكومة غير المعترف بها فى شمال قبرص يجب أن يكون لها منطقة اقتصادية خالصة. وفى أقصى الشرق، فشلت إسرائيل ولبنان أيضًا فى الاتفاق على حدودهما البحرية، والتى من شأنها أيضًا تقسيم منطقة غنية بالموارد.
•••
الجدران الفاصلة تنتشر، والسؤال هو، هل أصبح العالم تقسمه الجدران؟ قد يبدو الأمر صحيحا إذا نظرنا إلى الحواجز الجديدة وسط أوروبا، واستكمال أطول «جدار حدودى» بين الهند وبنجلاديش، ومشروع ترامب لبناء جدار على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. الأرقام تعطى الانطباع بأن الجدران تنتشر. لم يكن هناك سوى 15 جدارًا حدوديًا فى عام 1989؛ أما الآن فيوجد أكثر من 70 جدارا. ولكن معظم هذه الجدران ــ حوالى 50 منها ــ تشبه فى الواقع حواجز منخفضة أكثر من كونها جدرانا حقيقية.
على أى حال، عدد الجدران فى العالم ليس كبيرا، حيث تغطى الجدران حوالى 10 فى المائة من إجمالى الأميال التى تقع عليها الحدود. الأطول يقع بين الهند وبنجلاديش، والذى يغطى ما يقرب من 1900 ميل من الحدود التى يبلغ طولها 2545 ميلا. كما تلجأ الدول بشكل متزايد إلى «الحدود الذكية» التى تتضمن تقنيات المراقبة الرقمية، مثل الطائرات بدون طيار والتصوير الحرارى والتعرف على الوجه.
يستخدم السياسيون فى الغالب تهديدات الإرهاب والاتجار بالبشر والهجرة لتبرير بناء هذه الجدران، لكن يبدو أن بعض الحكومات ومواطنيها يفضلون الحواجز المادية التى تخلق جدرانا على الأرض وترسم حدودا دوليا.
لكن الأهم من ذلك، أن بناء الجدار لا يعنى إغلاق الحدود، بل يعنى توجيه عبور البضائع والأشخاص إلى نقاط مرور محددة. هناك بعض الحدود المغلقة بشكل دائم ــ مثل تلك التى تفصل المغرب عن الجزائر وإسرائيل عن لبنان ــ لكنها قليلة ومتباعدة. وعلى عكس جدار برلين الشهير، فإن الغالبية العظمى تهدف إلى منع الدخول وليس الخروج.
على الرغم من تأثير الحدود فى تقسيم الدول، إلا أنها أكدت حقيقة أن معظم العالم يراها ضرورية ولا غنى عنها. ربما مستقبلا قد يكون هناك عولمة لا تفصلها حدود مثل تلك التى تنبأ بها أوهماى، ولكن فى الوقت الحالى هذه الفكرة ليست مرحبا بها.
إعداد: ابتهال أحمد عبدالغنىالنص الأصلى