«الاغتصاب الزوجى» بين الفقه والقانون واللغة - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 3:55 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الاغتصاب الزوجى» بين الفقه والقانون واللغة

نشر فى : الخميس 8 يوليه 2021 - 9:20 م | آخر تحديث : الخميس 8 يوليه 2021 - 9:38 م
لعل أول ما يلفت النظر فى تعبير «الاغتصاب الزوجى» أنه مصطلح جديد، وغير مألوف ولم نسمع عنه من قبل فى مجتمعنا، فهذه ظاهرة لغوية تُسمى فى علم اللغويات بـ«الابتداع أو الاستحداث» (neologism)، كما نلاحظ أن هذا التعبير مستغرب لتركيبته المتناقضة، فبين «الاغتصاب» و«الزواج» تناقض، الأول جريمة اعتداء رجل أو امرأة على الآخر جنسيا ــ غالبا يكون الرجل هو المُعتدى ــ ولا تربطهما علاقة زواج، بينما الزواج ضرورة طبيعية مُقنَّنة، وتُعرف هذه التركيبة فى علم البديعيات بـ«الطباق»، وهو اصطلاحا: «الجمع بين الضّدين»، أو «المعنيين المُتقابلين» فى الجملة، والتناقض فى هذه التركيبة يأتى ليمنحهما معنى جديدا، مثل «وحيد بين الناس»، أو«الغموض الواضح»!
ومصطلح «الطباق» يقابله باليونانية مصطلح (Oxymoron)، إذ إن oxus تعنى «ذكى»، وmoros تعنى «حماقة»، أى «حماقة ذكية»، فهو يشير إلى الدمج بين المتناقضَين بهدف إثارة الإعجاب، أو السخرية للوصول إلى تأثير بلاغى على المستمع أو القارئ، كقول الشاعر أدونيس: «انهض أرضًا»، حيث «النهوض» هو إلى أعلى، و«أرضًا» هى إلى أسفل!
والمصطلح المستحدث: «الاغتصاب الزوجى» ــ موضوع مقالنا ــ لا نجد فيه التناقض فى الفعل، وهو «الممارسة الجنسية» بين رجل وامرأة، لأنه واحد فى الحالتين، ولكن التناقض يأتى فى «الحالة» التى وقع فيها فعل الممارسة الجنسية؛ فالزواج والاغتصاب يشيران إلى حالتين متناقضتين، وكما سبق الإشارة، «الزواج» معترف به قانونيا، ومُحلل دينيا، بل وتحث عليه كل الأديان، وكل الأعراف، ويُسمى كناية بـ«العلاقة الحميمية»، لما فيه من تعبير عن الحب والمودة بين الزوجين، ولعل أفضل وصف له هو التعبير النبوى: «تذوق عُسَيلتَهُ ويذوقَ عُسَيلتَها»، كما أنها تحدث فى حماية عقد رسمى، مُثبت فيه كل حقوق وواجبات الطرفين، فضلا عن أنه مُعلن أمام كل الناس، ويتفاخر به كلا الطرفين لما فيه من نسب وتوافق.
وأما «الاغتصاب»، نجد فيه نفس الفعل، ولكنه يحدث فى أحوال متناقضة لمثيلتها فى الزواج، فليس فيه مودة ولا رحمة، وإنما فيه عنف وترويع، ويقع خارج إطار القانون والشرع، ولذا هو مُدان ومُجرَّم، وأفضل ما يُوصَف به المُعتدى أن يطلق عليه كناية «الذئب»، لأنه فعل غير إنسانى، ولكنه حيوانى ووحشى، مثل أفعال الذئاب، ولذا فإننا نرى أنه فى حالة الجمع بين اللفظتين المتناقضتين «اغتصاب» و«زواج» هو «حماقة غبيَّة»، وليست «ذكية»، على عكس ما ورد فى مدلول المصطلح اليونانى (Oxymoron)، لأن مُستحدِثَه ــ فى هذه الحالة ــ يسعى للشهرة والإثارة والفتنة، وقلب معادلات فطرية خلق الله عليها الإنسان بنوعيه الذكر والأنثى، فيُبدِل المودة والرحمة بين الجنسين ــ فى إطار دينى وقانوني ــ إلى عداوة بينهما لا يستفيد منها إلا أصحاب النفوس المريضة!
•••
لم أتعود ــ فى حال مناقشة أى أمر ــ أن أنجرف وراء أى تيار، أو أن أجامل أحدا على حساب آخر، فهذه طبيعة الباحث الأكاديمى، فـ«الموضوعية» هى العنصر الأساسى بجانب تحكيم العقل والعلم للوصول للحقيقة؛ ومن أجل الوصول للحقيقة لابد للباحث أن يكون مُحايدا، فإذا بحث فى شأن عقائدى لابد أن يُنحى عقيدته أو مذهبه جانبا، وإذا بحث فى أمر اجتماعى أو إنسانى متعلق بالرجل وبالمرأة فلابد أن يتجرد من نوعه الذكورى أو الأنثوى، وإذا كان البحث فى تشريع قانونى أو فقهى فيجب على المُشَرِّع أن يبتعد عن ميوله ونوازعه الشخصية، فهذا ما يجب أن يتميز به الباحث، وكذلك المشرع، فهما مثل القاضى لابد وأن يكون محايدا.
المؤسف أن كل من تعرض لقضية «الاغتصاب الزوجى» تناولها بالإدانة أو بالتبرير «المطلق»، دون تحليل مواقفهم تحليلا موضوعيا، ولذلك ضاعت الحقيقة، وأصبح صراعا بين الرجل والمرأة، كما هو الحال بين مُشجعى الأهلى والزمالك؛ تريد بعض النساء اعتبار «العنف» فى ممارسة العلاقة الحميمية «اغتصاب»، بينما يعتبرها بعض الرجال حقا مشروعا لهم، لأنها زوجته، حتى وإن كانت مُتعبة أو مريضة، وقد جاء هذا التعارض أو التناقض بناء على التوصيف الخاطئ للحالة، فالزواج ليس فيه اغتصاب، وإنما فيه ممارسة «حميمية» مشروعة، والاغتصاب ليس فيه ممارسة حميمية، وإنما فيه «اعتداء» على جسد امرأة غريبة عن المُعتدى، وفيه انتهاك للقانون وللشرع وللقيم.
ونحن نرى أن التوصيف الموضوعى والصحيح فى حالة الزواج هو «ممارسة العنف» من طرف نحو الآخر، و«العنف» يقع فى حالة الزواج ليس فقط مع ممارسة الجنس بين الزوجين، ولكنه يمكن أن يقع فى مواقف كثيرة يومية بينهما، فإجبار الزوجة على ممارسة الجنس لا يفرق عن الضرب أو الإهانة بالسّب أو باللفظ المُسيء للزوجة، فهو فى كل الأحوال «عُنف» يعاقب عليه القانون، وتكون نتيجته حق الزوجة فى طلب الطلاق من زوجها بحكم قضائى أو بغيره، وحصولها على كل حقوقها، أما «الاغتصاب» فهو جريمة يُعاقب عليها القانون، وقد تصل العقوبة للإعدام!
إن ما يحدث فى حالة عدم استجابة الزوجة لممارسة الجنس مع زوجها، ليس بالضرورة أن يكون «نشوزا»، ولكنه من الممكن أن يكون «امتِناعا» لأنها تشعر بتعب أو بإرهاق من عملها فى البيت أو فى العمل، مثلها مثل الرجل فهو يمر بهذه الحالة أيضا، أو يكون «تَمنُّع» منها كدلال لمعاتبة زوجها لحل مشكلة بينهما، وهى فى ذلك مثلها مثل الرجل عندما أباح له الله سبحانه بأن يهجر زوجته فى مضجعهما للتعبير عن غضبه منها فى مشكلة بينهما؛ وإنما النشوز يأتى إذا أفرطت المرأة فى امتناعها أو تمنعها المستمر بدون سبب مُلزِم، فهى بذلك ستدفع زوجها للانحراف أو للبحث عن زوجة أخرى، حتى ولو كانت العقوبة السجن، فالتحايل ليس صعبا كالزواج العُرفى، على سبيل المثال، وبالمثل لا يحق للزوج أن يُبالغ فى هجره لزوجته لأنه سيدفعها للانحراف، إذن هى معادلة يمكن أن تدفع الزوجين للانجذاب بعد أى مشكلة، وليست فيها عقاب أو نشوز من طرف نحو الآخر!
•••
وعليه فإن المُسمى «الخاطئ» والتوصيف «الأحمق» ــ كما سبق القول ــ لهذه الحالة هو الذى قاد الجميع إلى سوء الفهم، وبالتالى سوء التقدير للحالة، وكيفية مُعالجتها بشكل علمى صحيح، والغريب أن قسطا كبيرا من المجتمع تحول إلى جلادين، فهم يطالبون المسئولين بسَن قوانين مشددة تصل للسجن لمعاقبة الجانى، وهذه الظاهرة من وجهة نظرنا هى تعبير عن الفشل فى معالجة مثل هذه الأمور الأسرية أو الاجتماعية التى يجب أن تتسم بالمودة والرحمة واللين، فلا يمكن أن تستقيم حياة زوجين وأحدهما مهدد بأن يُسجن فى يوم من الأيام، فضلا عن أن كثرة العقوبات والتهديدات لأفراد المجتمع لا تُصلِح الأفراد، ولكنها تُعلمهم كيفية التحايل والهروب من العقوبة، وهذا ما نلاحظه على سبيل المثال فى قوانين المرور التى تتغير من فترة لأخرى لتشديدها، ومع هذا المخالفات فى ازدياد! ففى الدول المتقدمة، أى فرد يسعى للحصول على رخصة قيادة ــ وإن كان يجيدها ــ لابد أن يمر بدورة تدريبية تعلمه سلوكيات القيادة السليمة!
هذه العلاقة المضطردة الواضحة فى زيادة التحايل مع تغليظ العقوبة تجعلنا نعترف بأن سنّ عقوبات بالسجن أو بالغرامات لن تأتى بنتيجة إيجابية لصالح المجتمع، وإنما العلاج السليم هو فى تحسين منظومتى التعليم والإعلام. أتذكر أننى فى المرحلة التعليمية بالإعدادية كنت أَدْرُس فى مدرسة أجنبية، وكان من ضمن الأنشطة الثقافية والتربوية أن إدارة المدرسة كانت تُنظم للتلاميذ ــ وهم فى سن المراهقة ــ دورات توعية عن العلاقة الزوجية، وكان أهم ما فيها هو تعليمنا كيف يُعامِل الرجل زوجته خاصة فى فترات التعب التى تمر بها المرأة شهريا، والغريب أن هذه المدرسة كانت للرهبان! الإصلاح يأتى إذن بالتعليم المتميز وليس بالعقوبات أو بالتهديد بالسجن أو بالغرامة!
وختاما، نقول إن مستحدثى مثل هذه التعبيرات المتناقضة، وغير العقلانية، والخبيثة ــ من وجهة نظرنا ــ سوف يؤدون بها ــ من حيث يعلمون أو لا يعلمون ــ إلى هدم منظومة الأسرة، نواة المجتمع الصالح والسعيد؛ وكثرة العقوبات والتهديدات لن تصلح أحوال المجتمع، بل على العكس، سوف يُنفِّرون بها الشباب من فكرة الزواج، أساس الاستقرار والاستقامة والسعادة، لما فيها من مودة ورحمة بين الرجل والمرأة، ولعل ارتفاع نسب الطلاق هى نذير خطر يجب أن ينبهنا إلى أن مجتمعاتنا الشرقية تتجه نحو كارثة، كما نُكرر أن سن قوانين جديدة لتشديد العقوبات ضد الرجل أو المرأة لن يضبط الحياة الزوجية، وإنما إعادة بناء الشباب والشابات بتحسين منظومة التعليم، وضبط منظومة الإعلام بكل جوانبه، سواء الأفلام أو المسلسلات أو الأغانى، وفرض النماذج الناجحة فيها، وتنحية النماذج السيئة هى العوامل التى ستنقذنا من الانهيار الأسرى والاجتماعى.
أكرم السيسي، استاذ جامعي.
أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات