تردد الحديث فى الأسابيع الماضية كثيرا للمرة الأولى بقوة عن الصحة النفسية. للأسف فإن الغالبية العظمى من الشعب المصرى لا يعرف أهمية الصحة النفسية وأثرها على سلوك الإنسان وتفاصيل حياته اليومية: أتحدث هنا عن كل المصريين على وجه العموم ساكنى الريف وقاطنى الصعيد ومواطنى الواحات ثم أولئك الذين يعيشون فى المدن الكبرى وعواصم المحافظات.
تختلف الهموم وتتنوع أسباب الضغط العصبى باختلاف الشخصيات والثقافات وتبعات الحياة الملزمة للإنسان لكن الأثر لا يختلف بأى حال فى كل المجتمعات ودون استثناءات.
الفلاح الذى ماتت «جاموسته» والصعيدى المطالب بثأر أبيه وسيدة المدينة العاقر وطالب الجامعة الذى فشل فى الالتحاق بالكلية التى تتوافق ومؤهلاته والرجل الذى تنتابه الشكوك فى زوجته كلهم فى الهم سواء: مشاعر اكتئابية وشعور بالغضب وارتباك ذهنى وممارسات سلوكية لا تتفق وشخصياتهم التى اعتادها من حولهم. أفعال متناثرة ورغبات مقهورة وأحلام مجهضة وآمال تحطمت.. كلها أحاسيس ومشاعر يكبل بها الإنسان الذى يعانى من الضغوط العصبية التى قد تستغرقه لفترات قصيرة ثم تتلاشى أو تلك التى تسكن الإنسان لفترات طويلة ربما لا تنتهى فتلازمه ومعها تستمر تلك السلوكيات المبتورة التى تلتصق به فتحيل ملامحه النفسية إلى ملاح إنسان هزمته أيامه فسلبته القدرة على الفرح والبهجة وأورثته الهم والكآبة.
تختلف الحكايات فى وقائعها وتفاصيلها لكنها تتفق جميعها فى الأثر على نفس الإنسان دون خلاف.
فى المجتمعات الأكثر تحضرا مازالت زيارة الطبيب النفسى فى بلادنا تعد رفاهية بل مازال الكثيرون يعدونها عيبا يخفونه إذا ما اضطروا إليها وعن قناعة. أما مجتمعات الريف والصعيد والمجتمعات الشعبية فى المدن فإن مجرد اقتراحها يعد من قبيل السخرية أو الاتهام بالجنون.
إقناع عموم الناس فى بر مصر بأهمية الصحة النفسية أمر يبدو صعبا للغاية لكنه ليس بمستحيل على أصحاب الهمم.
أردت مشاركتهم اليوم بعضا من أفكار طبيب لأمراض القلب يؤمن بطب النفس ويعلم جيدا أنه لا صحة لجسد عليل النفس.
< الصحة النفسية موضوع هام وحيوى يجب أن ننبه إليه كل من يمكنه الحديث فيه عن علم. يجب أن تتبنى كل وسائل الإعلام قضيته وأن يعرض بأساليب مختلفة ومستويات متدرجة ليصل إلى عقول كل الناس ويرسخ فى الأذهان فكرة واضحة المعالم عن المرض النفسى وأبعاده وعن الضغوط النفسية والعصبية والأمراض النفسجسمية. الإعلام الذى غرس فى عقول الشباب أن «عبده موتة» و«إبراهيم الأبيض» المثل الأعلى أظنه قادر على غرس مبادئ أفضل وأقرب إلى الشخصية المصرية السوية. لا أتحدث هنا عن قيود على الفكر والفن والإبداع إنما أتحدث عن ضمير مجتمعى قادر على تحويل مسارات الوعى فى الوسط الفنى ومنتجيه ومخرجيه ولا أنكر بالطبع دور الممثلين المجتهدين أصحاب الرسالات.
< على الدولة أهم الأدوار فى الأمر: الرعاية النفسية للمرضى والأصحاء معا يجب أن يفسح لها مكان تستحقه عن جدارة فى برنامج التأمين الصحى الشامل.
الاهتمام بأحوال كوادر أطباء النفس سواء فى تأهيلهم للوفاء بمسئوليات العلاج النفسى الجسيمة التى يدفعون ثمنها من سلامهم النفسى ويعانون من الآثار المترتبة على استمرارهم فى المعاناة المشتركة لهم مع كل حالة يتصدون لعلاجها أيضا فى ظروفهم وظروف عملهم التى أعلم جيدا أنها صعبة.
< تعد الاختبارات النفسية للمتقدمين لوظائف الدولة المهمة فى كل بلاد العالم تقليدا لقياس كفاءة المتقدم للوظيفة ودعما لمرشح عن آخر. حتى رئيس الولايات المتحدة يخضع دائما للاختبارات النفسية عند إعلان ترشحه. أرى فى هذا احتراما كبيرا له وللبلد الذى سيتولى مقاليد الحكم فيه ووضع سياساته الاستراتيجية.
لذا أتمنى لو كان شرطا ملزما لاختيار الوزراء ومن يشغل المواقع الهامة دون أدنى حساسية بل من موقع مسئولية الخضوع لاختبارات نفسية تؤيد صلاحيتهم لما هم مقبلون عليه من مهام.
< حتى لا تتحول تلك النوعية من الجرائم الكارثية إلى اهتمام مجتمعى يومى: يجب أن يقتصر النشر على معلومات واضحة محددة للجريمة دونما إضافات تلون الحدث بما لا يتفق مع وقائع الجريمة بل يفسح مجالا للإشاعات والأكاذيب. يجب أن يسمح فقط للمهنيين بالنشر فى صور واضحة صادقة مختصرة لا لهواة الثرثرة وإشاعة الرعب فى النفوس. هؤلاء يجب أن تحاسبهم الدولة فى محاكمات سريعة وناجزة.
اللهم هيئ لنا رشاد النفس ويسر لنا سلامها وصحتها.