لا ينبغى النظر إلى تصريحات النائبين الأمريكيين جون ماكين ولينزى جراهام باعتبارها انتصارا لفصيل سياسى بمصر على حساب آخر، ولا يجب المبالغة فى الاحتفال بها كأنها الغوث القادم من واشنطن، خصوصا أنها جاءت على طريقة «أنا لست مع الانقلاب، لكنى أحترمه»، فضلا عن أن عملية الانقلاب لم تكن لتتم لو لم يكن هناك ذلك الرضا الأمريكى، جهرا أم صمتا.
إن كل ما فعله ماكين وجراهام أنهما عرفا الماء بعد الجهد بالماء، وعرفا البطة بالبطة، ومن ثم فكلامهما إقرار لحقيقة علمية ناصعة يعرفها كل مبتدئ فى السياسة، وهى أنه عندما تمتد يد عسكرية لتقتنص سلطة من رئيس منتخب عبر آلية ديمقراطية، ثم تمنحها لمن ترضى عنه، فإننا نكون بصدد انقلاب، حتى لو لم تسمع خلاله جنازير المدرعات تنهش فى أسفلت المدينة، أو أزيز الطائرات يحطم زجاج نوافذ البيوت.
ما قاله النائبان الجمهوريان لم يخرج عن كونه رفضا للانقلاب كمبدأ مع القبول بنتائجه، وهما بذلك لم يبتعدا عن موقف إدارة باراك أوباما «الديمقراطية» التى تصنعت الجهل أو «اللا إدارية» أمام انقلاب ٣٠ يونيو، الذى يبدو أنه يوافق هواها وينزل بردا وسلاما على حليفتها إسرائيل.
إذن يمكن اعتبار ما ورد على لسان ماكين وجراهام تعبير عن رؤية علمية وليس موقفا سياسيا عمليا، وربما كان الموقف الذى أعلنه النائب فى مجلس الشورى السعودى الدكتور صدقة فاضل، أستاذ علم الاجتماع، أكثر وضوحا واستقامة أخلاقية واتساقا فكريا، إذ لم يكتف فى مداخلة ببرنامج كنت ضيفا فيه على قناة الجزيرة الفضائية أمس الأول ببيان أن ما حدث فى مصر هو انقلاب، ولكنه قدم موقفا قاطعا يرفض النتائج المترتبة عليه ويتعفف عن الرضوخ لها باعتبارها أمرا واقعا مفروضا بقوة السلاح، طارحا حلا يقوم على إزالة هذا العدوان الصارخ على الديمقراطية ينطلق من رقم (١) ولا يقفز بخفة القرود ليبدأ من الرقم (٤) كما يفعل حكماء الانقلاب المزيفون.
ورقم (١) هنا هو إيجاد صيغة محترمة لعودة الرئيس المنتخب إلى منصبه، بعدها يمكن الحديث عن نقل سلطاته وصلاحياته لآخر حتى تنعقد انتخابات فى شفافية لاستعادة مسار ديمقراطى خطفته قوات الخطف الذهنى. وهذا بالطبع عن منطق الخطافين الذين يرددون طوال الوقت «لا تراجع» ولا يريدون التنازل عن البطة السمينة التى حصلوا عليها عنوة بعد القفز على سطوح أول سلطة منتخبة، يصرون على قدرة البطة على الطيران رغم أنها عرجاء.
وبالطبع لا يمكن اعتبار رؤية الدكتور صدقة فاضل تعبيرا عن الموقف السعودى الرسمى، لكنها من المؤكد تجسد صرخة ضمير مثقف عربى، كما أن كلمات ماكين وجراهام لا تعبر عن موقف الإدارة الأمريكية رسميا، وإنما تبلور تعريفا أكاديميا لما وقع بمصر.
وعندما يكون الضمير الأخلاقى معك فأنت على صواب، وعندما تكون الحقائق العلمية فى صفك فأنت على حق.. وتلك هى القوة الروحية الجبارة التى يستند إليها المعتصمون الأحرار فى ميادين مصر؛ رفضا للانقلاب.
وإلى كل معتصم وكل أم وأب لشهيد وكل مصاب وجريح وكل أسرة فقدت عزيزا فى معركة الصمود وكل معتقل ومحبوس بجريرة رفضه للانقلاب.. كل عام وأنتم جميعا بخير.