لعله لم تلْقَ فكرةٌ من الجدال ــ سواء منه الخصيب أو العقيم ــ خلال الفترات الأخيرة، مثل ما لقيته «نظرية المؤامرة» شأنها فى ذلك شأن أفكار عديدة لقيت نفس المعاملة مثل «الديمقراطية»، على سبيل التخصيص.
وغالبا ما تتقاذف الأطراف السياسية فى منطقتنا العربية عموما، الاتهامات والاتهامات المضادة، باستخدام تلك المقولة المراوغة.. ولكنى حاولت أن أمحص الكلمة فى واقعنا العربى المعاصر وتاريخنا الحديث، فوجدت ما يدل على أنها ذات شأن عظيم، وأن لها «قوة تفسيرية» جد عالية عندنا. والحق أن تمحيص هذه المقولة يعود بنا إلى ما تحدثت به العلوم الاجتماعية عموما، ودراسات الاجتماع التاريخى والتنموى خصوصا، حول العلاقة النسبية بين تأثير العوامل الخارجية والعوامل الداخلية فى التطور المجتمعى للبلدان النامية. وقد انقسم البُحاث بصفة عامة إلى فريقين: فريق يرى أن الأولوية فى حسم مسار التطور يعود إلى العوامل الخارجية، وغالبا ما تم النظر إلى رواد المدرسة الفكرية المعاصرة المسماة بمدرسة «التبعية» على أنهم يحبذون هذا المقترب. وفريق آخر يرى أن الأولوية للعوامل المحلية أو الداخلية.
بيْد أن نفرا من رواد نظرية «التبعية» أكدوا على أهمية العلاقة الديالكتيكية، متبادلة التأثير عبر الزمن، بين العاملين الخارجى والداخلى.
وكنت كتبت فى عام 2015 مقالا بحثيا موجزا حول (الاختراق الأجنبى فى الوطن العربى، دراسة مقارنة مع منطقة شرق آسيا)، ووجدتنى أميل إلى تلك الفكرة القائلة بتبادل الأثر بين العاملين الخارجى والداخلى فى تفسير التطور المجتمعى للبلاد النامية، ومنها البلدان العربية. ولعلنى وجدت مصداقية كبيرة حول أثر العامل الداخلى على نحو ما أشار اليه المفكر الجزائرى العتيد (مالك بن نبى) بمناسبة فكرته الذائعة اللامعة حول ما أسماه «القابلية للاستعمار».
ولكنى لما تفكرت مليا فيما يجرى فى أقطارنا العربية هذه الأيام من عام 2019، وخاصة فى الجزائر والسودان وليبيا، وكذلك اليمن، وقبل ذلك سوريا، والعراق بالطبع، وجدت أنه قد يكون من الأوفق أن نراجع فكرتنا مرة أخرى. ثم أنى أطلت التأمل فى تلك الفكرة، فيما يتصل بالحالة العربية لمرحلة ما بعد الاستقلالات الوطنية (أو «مرحلة ما بعد الاستعمار») فأصبحت أميل إلى تغليب أثر العوامل الخارجية فى تحديد مسار التطور المجتمعى، وخاصة الاقتصادى والسياسى منه، للبلدان العربية، لا بل إن العوامل الداخلية يتم التلاعب بها تلاعبا، من لدُنْ القوى الأجنبية.
ولقد توصلت إلى استنتاج، آمل ألا يكون ضعيف القاعدة، بأن المتغيرات السياسية الحاكمة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فى الحالة العربية الراهنة، مصدرها خارجى بالذات. وأستبق القول هنا، لأذكر أن معنى هذا الاستنتاج، أن الوطن العربى لن يستقيم له التطور خالصا وفق مقتضيات مصالحه الحقيقية، إلا إذا ارتخت قبضة المتغير الخارجى على رقاب المجتمع العربى والأنظمة الحاكمة.
وأما متى سترتخى هذه القبضة، فإن هذا يعود بنا إلى البحث فى تطور العلاقات الدولية المعاصرة، ومسار الهيمنة الذى لم تزل تتحكم فيه الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى، فى خط سيرها المتعرج ذى الطابع الحلزونى ــ أو «اللولبى» ــ الظاهر.
للولايات المتحدة ــ وتابعتها «قُفة» ــ أوروبا العجوز ــ مصالح أكيدة فى منطقتنا العربية تجعلها تشدد قبضتها ولا ترخيها من أى جانب. وأول هذه المصالح النفط والغاز، فإنه تحت أراضى البلدان العربية ومياهها يكمن نحو 55% من الاحتياطى المؤكد للزيت الخام فى العالم، ونحو 28% من الاحتياطى المؤكد للغاز الطبيعى. ولخمسين سنة قادمة، أو أقل قليلا، أو أكثر، سيبقى الاعتماد الأساسى فى ميدان الإمداد بالطاقة قائما على الوقود الأحفورى من النفط والغاز.
ولعديد العوامل التى ليس هنا مجال التفصيل فيها، تظل الولايات المتحدة بالذات، حتى إشعار آخر، أكبر فاعل اقتصادى فى العالم. ومن أدلتنا على ذلك، أنه ما أن تشهر الولايات المتحدة سيف ما تسميه «العقوبات الاقتصادية» ــ وهى ليست أكثر من عقوبات انفرادية من طرفها هى بادئ الأمر ــ على أية فى العالم، حتى تهتز فرائص وتترنح عروش..!
ثم إن الولايات المتحدة هى أكبر دول العالم استحواذا على ناصية التقدم التكنولوجى الرقمى فى عصر ما يسمى «الثورة التكنولوجية الرابعة» لاسيما فى مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وإذن فإن الولايات المتحدة ــ تلك الدولة الأقوى على الكوكب الأرضى راهنا ــ ذات قبضة قوية بما يكفى لممارسة سياسة الهيمنة، وزيادة؛ وهى تشهر هذه القبضة أمامنا ومن خلفنا، بالنظر إلى الموقع الحاكم للوطن العربى فى الإمدادات الحالية والمستقبلية لمصادر الطاقة التقليدية. ونظرا لهذه الأهمية الحيوية للوطن العربى، اقتصاديا، ومن ثم جيوبوليتيكيا، فقد احتاط لذلك، الاستعمار الأوروبى القديم، ومن بعده الاستعمار الجديد فى الحقبة الأمريكية إبان الصعود السوفيتى ثم من بعد السقوط؛ وكان هذا الاحتياط أو التحوط معلقا على إقامة كيان سياسى وفاصل بشرى من خلال تجسيد المشروع الصهيونى، بالمساعدة على إقامة ما أسموْه (الوطن القومى لليهود فى فلسطين). وهكذا كان؛ وأصبح هذا الوطن الكيانى ــ ممثلا فى (إسرائيل) ــ أكبر مشروع غربى امبراطورى للاستثمار فى الجيوبوليتيكا العالمية فى عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولقد نجح نسبيا، المشروع الاستثمارى ــ الاستعمارى إلى حين، وقامت «إمبريالية صغرى» صهيونية، مساندة للإمبريالية الكبرى، الأمريكية، حارسة على حدود الإمبراطورية مترامية الأطراف. وتشد هذه الإمبراطورية أطرافها، تلملمها، على أصقاع منطقتنا العربية خصوصا، والمنطقة العربية – الإسلامية المركزية عموما (أو ما يسمى غربيا بالشرق الأوسط الكبير) من خلال تشديد القبضة على تطور النظم السياسية العربية بالذات.
يترتب على ذلك، بالضرورة، أن الإمبراطورية وذيلها الإمبريالى الصغير الإسرائيلى لابد متدخلة تدخلا مباشرا أو غير مباشر، فى تطور الأحداث السياسية العربية، بما فى ذلك ما جرى ويجرى وما قد يجرى من ثورات وانتفاضات وهبات شعبية. فما تراه هى ذا عداء جذرى لها، تقوم بقمعه حتى تحاول القضاء عليه، بمختلف الأدوات وبكل الوسائط، من قِبَل الإمبريالية ذاتها، وبالقفة الأوروبية، والذيل الإسرائيلى، وبالتوابع. ذلك ما جرى مثلا إزاء ثورة الثالث والعشرين من يوليو فى مصر عام 1952 مرورا بعام 1956 (حرب بورسعيد)، وعام 1967 (عدوان الخامس من يونيو) حتى رحيل جمال عبدالناصر (28 سبتمبر 1970).
ومن بعد العمل على محاولة إفشال المشروع الثورى ــ الناصرى، بمساعدة مباشرة أو غير مباشرة من عوامل داخلية، جاءت المساعدة الغربية الأمريكية على إقامة بديل متكيف مع الإمبريالية الكبرى والصغرى كما جرى منذ (15 مايو 1971). ثم تأتى المحاولات الدائمة للعمل على إجهاض ثم السعى إلى إفشال الانتفاضات المجتمعية المستنيرة فى البلدان العربية تباعا، مع تأكيدنا الثابت على دور «العامل الداخلى» أو «المحلى» غير منازع.
ولذلك نرى أن الإمبراطورية وذيلها، مع «تابعها القُفة، وبوسائطها السياسية المتنوعة، لا تفتأ تتدخل بأصابعها الخشنة والناعمة، من أجل الإجهاض والإفشال تباعا. وتلك هى «المؤامرة» بالمعنى التاريخى، من أجل أن تظل أمتنا العربية تدور داخل «الدائرة المفرغة» لتناوب الحكم، دون حسم لصالح التيار الوطنى ــ القومى التقدمى الحقيقى.
وطالما بقيت الإمبراطورية فاعلة كقوة هيمنة رئيسية، ومعها بالتبعية ذيلها النظامى، القائم كقوة مهيمنة فرعية بين ظهرانينا، فلن يقدر لإرادتنا العربية الشعبية أن تصير مطلقة السراح فى تشكيل مصائرنا بحرية تامة وفق ما نريد. ولكن ليست هذه حتمية آلية لمشروع الهزيمة. وإن الإرادة الإنسانية الثورية ضرورة تاريخية لمقابلة «الأمر الواقع» التاريخى.
من الوقائع السابقة وما تحمله من استنتاجات، نجد تأكيدا عاليا لمفهوم «نظرية المؤامرة» بالمدلول التاريخى، وإن يكن مراوغا بطبيعته. وإن المؤامرة على وطننا العربى بأقطاره المتنوعة، وفق ذلك، ليست مجرد كلمة لها معنى، فى الحقل الفلسفى، وليست من قبيل الألفاظ ذات المرجعية «الماورائية» ــ أو «الميتافيزيقية» ــ التى دعاها الفلاسفة «الوضعيون المناطقة» قبل مائة عام «غير ذات معنى»، سيرا على خطى (آير) و (فتجنشتاين) وعندنا (زكى نجيب محمود) فى المرحلة الباكرة من تطوره الفكرى. هى ذات معنى مطابق للوقائع الملموسة التى ذكرنا من بينها ما ذكرنا. ولكن ليس المعنى فقط، ما يميز «نظرية المؤامرة»، فى باب الفهم الفلسفى، ولكن ما يميزها قبل ذلك وبعده، أنها تمثل «الحقيقة» Truth أو هى تلبى شرط «الصدق» فى نظرية المعرفة التقليدية، حسب ما ذكر (تشارلز بيرس) وعندنا «عزمى إسلام». إنها إذن تجمع بين «المعنى» وبين «الحقيقة».
انطلاقا من المعنى والحقيقة التى تتضمنها وتشير إليها (نظرية المؤامرة) فى الحقل الدلالى الخاص بصيرورة الواقع العربى المتغير، يجب العمل الدائم الدائب من أجل خلخلة القبضة القوية لقوى الظلام المنعكسة من مشروع الإمبراطورية وقُفتها وذيلها، حتى نكون مستعدين للحظة الحقيقة حين يأتى أوانها.
وإنه جنبا إلى جنب مع السعى إلى تحسين شروط حياة شعوبنا فى اللحظة الراهنة، والحد من شروط الهيمنة، لابد من أن نشرع فى تأسيس قواعد النهضة المرتجاة للمستقبل المنظور وغير المنظور. ومن جهودنا وجهود أمم وشعوب كثيرة فى الإنسانية الكوكبية، يمكن أن يتخلق عالم جديد أفضل حقا.
أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية