بعد محاولات عقيمة عديدة لبدء مفاوضات جادة مع حكومة بنيامين نتنياهو، تقدم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بطلب عضوية كاملة لفلسطين بالأمم المتحدة، بالتحرك أولا لمجلس الأمن حسب لائحة الإجراءات على الرغم من المعارضة الشديدة والمعلنة ليس فقط لإسرائيل، وإنما كذلك وهذا الأهم من الولايات المتحدة، صاحبة الفيتو، وهى معارضة تقع فى تعارض وتناقض سياسى تام وكامل مع ما ذكره الرئيس أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال شهر سبتمبر 2010، حينما أعرب عن أمله فى أن يشهد عام 2011 ولادة دولة فلسطينية مستقلة.
ستشهد خلال الأسابيع المقبلة مناورات واتصالات مكثفة حول اللجوء الفلسطينى إلى الأمم المتحدة، فإذا قبل المجلس الطلب دون استخدام الفيتو الأمريكى، وهذا ما أستبعده، فستكون الخطوة الفلسطينية المقبلة إقرار هذه التوصية الإيجابية فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وحتى إذا فشل المجلس فى رفع توصية ايجابية للجمعية العامة نتيجة الفيتو الامريكى على مشروع قرار يحظى بأغلبية أعضاء المجلس، وهى 9 أصوات إيجابية، فمن الطبيعى أن يلجأ الفلسطينيون إلى الجمعية العامة محبطين من الموقف الأمريكى، وإنما مرفوعى الرأس، فخورين بالمعنى السياسى لطلبهم، ليحركوا مشروع قرار مختلف فى الجمعية العامة يؤكد حقوقهم، ويرفع مستوى عضويتهم بالأمم المتحدة، وإنما دون مستوى «عضوية دولة» الذى يشترط وجود توصية إيجابية من مجلس الأمن أولا.
أما اذا سقط مشروع القرار الخاص بطلب العضوية الفلسطينية الكاملة للأمم المتحدة، نظرا لعدم حصول المشروع على الأصوات الـ9، ودون الحاجة إلى الفيتو الأمريكى لإسقاطه، فأعتقد ان الإحباط الفلسطينى بل العربى سيكون أشد وتيرة وحدة، لينعكس على الموقف الفلسطينى بالجمعية العامة، وحتى فى خارج الأمم المتحدة ارتباطا، وقد ينتقل إلى الشارع العربى ذاته، وموقفه من الولايات المتحدة، وإسرائيل وحتى على المدى الطويل تجاه السلطة الفلسطينية ذاتها.
●●●
وهناك بطبيعة الحال احتمالات اخرى، من ضمنها عدم فصل مجلس الأمن فى الطلب الفلسطينى بعدم التصويت عليه فى هذه المرحلة، أو الاكتفاء بإصدار بيان من رئيس المجلس يدعم المطلب الفلسطينى لإقامة دولته، دون الموافقة على طلب العضوية، مع الدعوة إلى بدء مفاوضات إسرائيلية فلسطينية جادة فى إطار زمنى محدد، فى نفس الاتجاه الوارد فى بيان الرباعية الدولية، وهذا هو الاتجاه الأرجح فى هذه المرحلة، على الرغم من أنه لا يلبى أمانى وتطلعات الجانب الفلسطينى، وسيكون على السلطة الفلسطينية اتخاذ قرارات صعبة برفض هذا المسعى أو قبوله، خصوصا إذا لم يتم وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية، وهذا غير متوقع، بعد إعلان إسرائيل مؤخرا عن بناء المزيد من المساكن فى القدس الشرقية، بما يعكس غرورا إسرائيليا متزايدا فى ظل الغطاء السياسى الذى توفره أمريكا لها حتى مع استمرار سياستها الاستيطانية التى أعلنت الولايات المتحدة رفضها لها.
أيا كانت نتائج المداولات بالأمم المتحدة خلال الأسابيع المقبلة، هناك مجموعة خلاصات واضحة، فمصداقية أوباما كراع للسلام، وممثل لتيار جديد فى الساحة الأمريكية، وأثر خطابه القيم بجامعة القاهرة عام 2009 فقدت الكثير فى ظل عجز الجانب الأمريكى عن إقناع إسرائيل بوقف الاستيطان ومعارضته الآن للتحرك الفلسطينى فى الأمم المتحدة.
وأكد رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو بمواقفه تجاه الحدود ــ إقراره البناء فى القدس الشرقية ــ وطرحه لمسألة يهودية الدولة الإسرائيلية من الآن، أنه غير صادق فى دعوته لمفاوضات مباشرة تهدف إلى إقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية، وأنه يفضل أن يشهد له التاريخ أنه حمى الحقوق الإسرائيلية فى الضفة الغربية لنهر الأردن، والهوية اليهودية لدولة إسرائيل، حتى وإن جاء ذلك على حساب السلام فى الشرق الأوسط.
●●●
وينتقد البعض الرئيس محمود عباس للجوء إلى الأمم المتحدة بدلا من التفاوض المباشر مع إسرائيل، وهو اتهام باطل ومجحف فى الأساس لعدم جدية إسرائيل فى التفاوض، وسعيها لاستغلال تمسك أبومازن بالأسلوب السلمى لحل النزاع ومواصلة المفاوضات، للتغطية على سياساتها الاستيطانية وتخفيف الضغط الدولى الذى بدأ يتولد نتيجة لجمود عملية التسوية، فضلا عن أنه من حق الفلسطينى، كغيره من الشعوب، اللجوء إلى الأمم المتحدة فى أى وقت، لأن المنظمة تمثل المرجعية الرئيسية للشرعية الدولية وللحقوق الوطنية للشعوب، والمنظومة التى تحررت فى ظلها أغلب الشعوب تحت الاحتلال الأوروبى بعد الحرب العالمية الثانية.
اعتقد أن الرئيس محمود عباس اتخذ خطوة لا مفر منها فى تحركه تجاه الأمم المتحدة، وانه سيخرج منها أكثر قوة إذا حصل على موافقة مجلس الأمن، أو حتى إذا سقط القرار نتيجة لفيتو أمريكى، مادام حصل على الأغلبية المطلوبة بالمجلس، باعتبار انه تمسك بالحق الفلسطينى، وحصل على تأييد دولى رغم سقوط القرار، وسيكون من السهل عليه الحصول على قرار قوى من الجمعية العامة للأمم المتحدة، علما بأنه سيتعرض خلال الأسابيع المقبلة لضغوط شديدة ومتعارضة بما فى ذلك من الداخل الفلسطينى، من جانب شخصيات تطالبه بعدم بدء المفاوضات استنادا إلى تمسكه المعلن بوقف الاستيطان أولا، أو لرفضهم التفاوض من أساسه، فى حين سيركز آخرون من الداخل أيضا، وعدد من الأطراف الخارجية، على أن الوضع على الأرض سيزداد سوءا فى ضوء رد الفعل الإسرائيلى المتوقع، واحتمال قطع الولايات المتحدة لمساعداتها للسلطة، وسيطالبون
أبومازن بالوصول إلى حل وسط يسمح باستئناف المفاوضات مع إسرائيل أو على أقل تقدير، عدم تصعيد الموقف بمجلس الأمن، درءا لرد الفعل الأمريكى والإسرائيلى للتحرك فى الأمم المتحدة.
أتمسك، وبشدة، بأن من حق جميع شعوب العالم اللجوء إلى الأمم المتحدة، ولدى قناعة كاملة أيضا بأن مواقف الحكومة الإسرائيلية الحالية لا توفر الحد الأدنى المطلوب للتوصل إلى سلام فلسطينى إسرائيلى، لذا فقد آن الآوان للتعامل مع الموقف بصراحة، ووضوح، الهدف هو سلام وإقامة دولتين، وليس مسرحية هزلية وعقيمة طالت كثيرا، لذا طالما قدم الطلب أؤيد استمرار فلسطين فى تحريك مشروع قرارها فى مجلس الأمن، وعدم استئناف المفاوضات مع اسرائيل دون وقف الاستيطان.
أما اذا رأت السلطة الفلسطينية غير ذلك، لأى سبب من الأسباب، وفضلت حلولا وسط، فالمهم ألا تنتقص هذه الحلول من حقهم فى اللجوء للامم المتحدة، بما فى ذلك السعى للحصول على عضوية كاملة بالمنظمة مستقبلا، أو تضعف موقفهم التفاوضى مع اسرائيل، خصوصا بالنسبة للحدود، والاستيطان، ومن ثم فقد يرى الجانب الفلسطينى السعى لربط أى حلول وسط بتحقيق الآتى:
1ــ عدم سحب الطلب المقدم للحصول على عضوية كاملة فى الأمم المتحدة، مع الاكتفاء مرحليا بعدم طرحه للتصويت بالمجلس.
2 ــ إصدار مجلس الأمن قرارا بالإجماع ويتضمن:
ــ أخذه علما بالطلب الفلسطينى.
ــ جميع العناصر الواردة فى إعلان الرباعية الدولية الأخيرة، مع اضافة نقطتين رئيسيتين هما إشارة إلى أن حدود الدولة الفلسطينية هى حدود 4 يونيو 1967، ورفض مجلس الأمن استمرار سياسة الاستيطان الإسرائيلى ومطالبته إسرائيل بالوقف الفورى لتلك السياسات.
ــ إعلان السلطة الفلسطينية استعدادها استئناف المفاوضات مع إسرائيل فور تجميدها للاستيطان أو قبولها قرار مجلس الأمن ضمن مرجعيات التفاوض.
ــ استمرار السلطة الفلسطينية فى جهودها للحصول على اعتراف دولى بدولة فلسطين وحقوقها بالجمعية العامة للأمم المتحدة وعلى المستوى الثنائى.
●●●
تفرض علينا الواقعية السياسية مراعاة نفوذ وسلطات الدول الكبرى فى الساحة الدولية، بما فى ذلك استخدام الفيتو بمجلس الأمن قبل اللجوء إليه حتى لا تصطدم دائما بالفشل، وأتفق مع هذا الرأى دون أن يؤدى ذلك لتحجيم ذاتى لحركتنا، وهناك من يرى أن طرح أى قرار خاص بفلسطين على مجلس الأمن سيواجه بفيتو، وهو رأى لا أتفق معه، وإنما حتى إذا كان صحيحا فليحتمل كل طرف تداعيات مواقفه، وكان خطأ عربيا جسيما التمشى فى الماضى مع نظرية أنه التعامل مع النزاع العربى الإسرائيلى يجب أن يتم فقط خارج إطار مجلس الأمن، وقد فقدنا بذلك ثقل المجتمع الدولى، والذى يجب أن يدعم ويوازن الدور والمواقف الأمريكية التى أثبتت فى أحسن الأحوال أنها أقرب للجانب الإسرائيلى. وعلينا الآن إدارة المعركة السياسية باستخدام جميع الأدوات المتاحة لنا، مع توافر الاستعداد الكافى لمصارحة الجميع عن حقيقة ما يدار وجدية عملية السلام أو فشلها.