نحو إعادة الاعتبار إلى «شبه الجزيرة العربية».. تاريخ ثرى، وأفق رحيب..! - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:54 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو إعادة الاعتبار إلى «شبه الجزيرة العربية».. تاريخ ثرى، وأفق رحيب..!

نشر فى : الخميس 8 أكتوبر 2020 - 7:00 م | آخر تحديث : الخميس 8 أكتوبر 2020 - 7:00 م

فى وقت من الأوقات، خلال السبعينيات ومطالع الثمانينات من القرن المنصرم، بدا وكأن منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية «مكتفية بذاتها» فى مواجهة سائر المنطقة العربية عموما. حينذاك كانت «فورة أسعار النفط» فى ذروتها الهائجة، صعودا وهبوطا، وإيرادات النفط تمثل المحرك للنمو على النطاق العربى العام، مشرقا ومغربا. كانت الاستثمارات الأجنبية البليونية فى بلدان الخليج وشبه الجزيرة، حيث الشركات العملاقة عابرة الجنسيات، تجوب البلدان الخليجية ساعية إلى تشييد هياكل البنى الأساسية الكبرى، ومجمعات البتروكيماويات، وحتى الحديد والصلب، اعتمادا على البترول وعلى الغاز، موردا ماليا ومن المدخلات الوسيطة للإنتاج.
كان الخليج، وشبه الجزيرة، شاملة الحجاز ونجد وعسير (المملكة العربية السعودية) قِبْلة العمالة العربية المتنقلة، من الشام ومصر ومن جنوب شبه الجزيرة أى اليمن شمالا وجنوبا، وإلى حد ما بعض بلدان المغرب الكبير، وقبلها الآسيوية، يضاف إليها شطر من العمالة الأوروبية والأمريكية من شرائح المهارة العليا فى التخصصات العلمية ــ التكنولوجية.
***
تمت ترجمة التوجه نحو «الاكتفاء بالذات» فى الخليج، بمعناه الواسع شاملا شبه الجزيرة، بإقامة منظمة إقليمية فرعية هى ما سمى ــ بعد لأْى ــ «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» أو اختصارا، «مجلس التعاون الخليجى»، الذى تم إعلان قيامه رسميا بأبى ظبى فى 25 مايو 1981. كان ذلك يبدو كتوجه عربى عام، من أجل إقامة منظمات إقليمية فرعية، برز منها «اتحاد المغرب العربى» الذى أُعلِن تأسيسه فى مراكش 17 فبراير 1989، «ومجلس التعاون العربى» المكون من مصر والأردن والعراق واليمن (بغداد: 16 فبراير 1989). حينذاك بدت «المنظمة الأم»، جامعة الدول العربية، فى طور الغروب الذى ينذر بغياب.
ولكن سرعان ما انصهر الخليج انصهارا فى البوتقة العربية عبر الحديد والنار، خلال حروب إقليمية– دولية طاحنة، حروب ثلاثة، استغرقت إحداها (الحرب العراقية/الإيرانية) عقدا كاملا على التقريب (1980 – 88) تلتها حربان خلال عقد ونيف: حرب الكويت 1990 /91 (دون أن ننكأ الجراح) ثم الغزو الأمريكى للعراق 2003.
عبر «حروب الخليج الثلاثة» لم تعد العلاقة الخليجية ــ العربية قابة للفصام، فقد دخل الخليج فى المعادلة الإقليمية ــ الدولية ظالما ومظلوما، برضاه أو بغير رضاه. ولم يعد أحد يتساءل: هل يمكن للخليج أن ينعزل عن محيطه العربى أو يكتفى بذاته طائعا مختارا؟ بل أصبح السؤال: كيف تكون العلاقة الضرورية، الخليجية ــ العربية، ومن أى مدخل تصير...؟
وانصهارا تِلْو انصهار، عبْر تداعيات الغزو الأمريكى للعراق وما صاحبها وأعقبها من جولات التفاوض، و«التطبيع»، بين الحكومات العربية و(إسرائيل) برعاية غربية أمريكية من أجل (السلام) و(الرخاء) طوال عقد التسعينيات، ثم تداعيات ما أسماه الإعلام الغربى بالربيع العربى بعد 2010 مشرقا ومغربا، تجلى الخليج وشبه الجزيرة العربية معا، حبة واحدة من حبات العقد العربى الذى لا تنفصم عراه، سلما وحربا، كرها وطوعا، وفى كل حال.
وشيئا فشيئا دخل الخليج وشبه الجزيرة فى أتون العقدة الكبرى للتطور العربى المعاصر إجمالا. إنها عقدة فلسطين/ إسرائيل، أو إسرائيل/ فلسطين، وما يسمى بالصراع Struggle، ويقول البعض «النزاع» Conflict العربى/الإسرائيلى. وقد وصل الأمر مثلا إلى حد أن أصبح تطبيع إحدى أو بعض الحكومات الخليجية علاقاتها مع (إسرائيل) حدثا خليجيا داخليا، وعربيا قوميا، وكذلك دوليا، دون مِراء.
هذا إذن هو الخليج، وهذه شبه الجزيرة العربية، قطعة منا نحن العرب إجمالا، ونحن قطعة منه ومنها، لا تنفصم عُرانا، ولا نخالها تنحل وشيجتها أى يوم من الأيام، فهل هذا أمر فريد unique..؟ لا ليس ذاك.
***
وقد يخيل لشطر أو للجمهرة من المثقفين وللنخبة خارج الخليج وشبه الجزيرة، فى المشرق بمعناه المحدد، ووادى النيل، والمغرب العربى بمعناه الواسع، أن الخليج وشبة الجزيرة منعزلان، أو معزولان تاريخيا، ماضيا وحاضرا، وربما مستقبلا أيضا، عن سائر الوطن العربى الكبير. ولربما أن هذا ما يبدو من بعض العلامات العابرة فى ظاهر الأمر، ولكن ليس كذاك فى باطنه من أى وجه.
ومن المفيد جدا فى هذا الباب أن نعود إلى التاريخ البعيد والقريب لنسجل بعضا من أوجه الحقيقة.
هل نحن فى حاجة إلى الرجوع إلى آثار حضارات العصر الشرقى القديم..؟ ثم حقائق العصر العربى الوسيط؟ لندلف إلى الإشارة نحو شذرات من ذلك، لنقول إنه بالتوزاى مع الحضارة المصرية القديمة، وحضارة العراق القديم وخاصة من بابل وآشور، كانت هناك حضارة «اليمن الكبير» القديم. ولنذكر هنا أننا نميل إلى احتمال تصديق الرؤية التاريخية التى حاول إثباتها المؤرخ كمال الصليبى، ومن بعده تلميذه «زياد منى»، ثم المؤرخ المجتهد كثيرا فاضل الربيعى، من أن أحداث التوراة لم تقع فى فلسطين، وإنما وقعت فى شبه الجزيرة وفى اليمن بالذات. إن ما هو متوفر من دلائل آثارية فى اليمن وجنوب شبه الجزيرة، مما أشار إليه هؤلاء المؤرخون الثقات، يدل على ذلك بالإيجاب. كما أن «التدليل بالسلب» قائم، حيث لم تتوافر دلائل آثارية تنفى «الفرضية اليمنية» كما لا تتوفر أدلة يمكن أن تثبت، من قريب أو من بعيد، الفرضية اليهودية ــ الصهيونية الرائجة، حول احتمال وقوع الحدث التوراتى فى فلسطين. وفى القرآن نفسه، وإن لم يكن كتابا فى تعليم التاريخ بمعناه الضيق، إشارات كافية حول حضارة سبأ اليمنية القديمة والحضارات الأخرى التى (سادت ثم بادت) فى جنوب وفى شمال شبه الجزيرة، وشمالها الشرقى والغربى.
وما لنا نذهب بعيدا نحو الشرق القديم، وها هو الشرق الوسيط، اعتبارا من القرن السابع الميلادى، لتصبح منطقة شبه الجزيرة العربية، انطلاقا من مكة ومن يثرب (المدينة)، مركز الشرق الأدنى الوسيط، بل ومركز الحضارة العالمية لقرون، بمصاحبة دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة.
وكان أن خبا نور الازدهار الكبير لعالم الإسلام والعرب، وبدأ التهديد الخارجى القوى مع الغزو الصليبى للشام وفلسطين اعتبارا من مطلع الألفية الثانية، ثم الغزو المغولى بالغا أقصاه فى احتلال بغداد عام 1258 متزامنا مع تعاظم نفوذ المماليك لثلاثمائة عام تقريبا.
حينذاك ران الركود النسبى مخيما على المنطقة العربية؛ جنبا إلى جنب تحول طريق التجارة العالمية الذى كان يهيمن عليه العرب على أيدى المماليك، ليصير الطريق دائرا حول «رأس الرجاء الصالح» الذى اكتشفه البرتغاليون عام 1487 التفافا من المحيط الهندى، إلى شرق آسيا.
وبرغم تحول طريق التجارة العالمية بين آسيا وأوروبا، بعيدا عن الشاطىء العربى، فقد ظلت منطقة الخليج وساحل شبه الجزيرة الجنوبى (من اليمن) خاصرة وحاضرة للتجارة، ومركزا لنمو «طبقة التجار» كمحرك للنمو الاقتصادى عبر قرون.
وانطلاقا من ذلك، مع بزوغ الامبراطوريتيْن البريطانية والفرنسية، كان لابد أن تمتد أعين المستعمرين البريطانيين بالذات إلى الخليج وشبه الجزيرة بكل العناية والاهتمام. ولم يكن الأمر يستدعى احتلالا مقيما دائما للبريطانيين فى شبه الجزيرة والخليج، وإنما نقاط للحماية والتحصين، وردْع سلطة «التجار المحاربين».
***
فى تطورات متلاحقة، ومع إعلان قيام الدولة الموحدة فى وسط شبه الجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية) عام 1932، كان قد أطل مع تعاظم الاستعمار البريطانى ــ الفرنسى، عصر البترول.
بذلك أضيف عامل جديد بالغ الخطر للأهمية الجيوبولتيكية لمنطقة الخليج وشبه الجزيرة، حيث لم تعد مجرد منطقة محورية رابطة بين جناحى العالم (آسيا – أوروبا)، ولكنها أصبحت أيضا، و«بالمصادفة الجيوفيزيقية» الكبرى، إن صح التعبير، الموطن الأهم للاحتياطيات البترولية فى العالم.
ولما انتقل زمام القيادة فى العالم الغربى، بعد الحرب العالمية الثانية، من ثنائى بريطانيا وفرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لدرجة «الانسحاب البريطانى» فى أول السبعينيات (مطلع1971) من الخليج، فقد أُفسِح المجال لإعلان قيام كيان توحيدى «الإمارات العربية المتحدة» فى 2 ديسمبر 1971، وانتقل زمام الهيمنة فى الخليج وشبه الجزيرة إلى أمريكا دون منازع.
ومع أمريكا التى أصبحت راعية للكيان الصهيونى إسرائيل بدلا من بريطانيا، ربيبة الكيان قبل 1948، فإن محور «أمريكا – إسرائيل» صار يمثل القوة الطاغية الساعية إلى الهيمنة على (البترول والطريق) إذا صحت العبارة.
بذلك يكون شبه الجزيرة والخليج محط الأنظار، وملتقى البصر والبصيرة للجميع. وتشاء الأقدار أن يكون الشاطئ العربى من الخليج منطقة «تخلخل سكانى» شديد، مع تعاظم اكتشافات النفط، ليس من البترول فقط، وإنما من الغاز أيضا وخاصة، لاسيما فى أجزاء عربية معينة من الخليج. ومع الثروة البترولية ــ الغازية، ثراء مالى، مع كم سكانى عربى خفيف، على وجه العموم.
ليس غريبا من ثم أن يسعى تحالف (أمريكا ــ إسرائيل) إلى امتداد النفوذ صوب (الخليج ــ شبه الجزيرة) طريقا عالميا، ونبعا للنفط، ومصدرا لا ينضب للثراء المالى فى المدى المنظور. وهل يكون غريبا أيضا أن يسعى «التحالف» المذكور إلى فرض «علاقة طبيعية» للبلدان العربية، خاصة فى الخليج، مع الكيان الذى طال عزله وانعزاله، أى (إسرائيل)..؟
وختاما، إنا لنأمل أن يكون فى هذا المقال شىء من رد الاعتبار لشبه الجزيرة والخليج، حيث تاريخ ثرى ممتد، شِبْه مجهول أو مُجهل رغم ذاك، مع أفق مستقبلى رحيب.

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات