كان الاقتصادى السويدى الكبير جونار ميردال، الحائز على جائزة نوبل فى علم الاقتصاد، قد أصدر كتابه «دراما آسيوية Asian Drama» عام 1968، وعرض فيه لما اعتبرها أسباب فقر الأمم، وخاصة فى منطقة جنوب آسيا، فى ذلك الوقت. وقد لاحت لى فكرة محاكاة عنوان الكتاب المذكور، ولكن على نطاق أعرض من حيث نقطة البحث، حيث لا تتركز على الاقتصاد فقط، ولا على البعد الاقتصادى ــ الاجتماعى بصورة أعمّ، ولكن على ما هو أوسع من ذلك، وأشدّ إيغالا فى الأعماق. تلك هى ما يمكن تسميتها «الدراما العربية»، على مستواها الجغراــ سياسى العريض، فى «أفريقا سيا» إن صح التعبير، AfricAsia، حيث مساحة التلاقى المشترك للأمة العربية بين القارتين العريقتين، على امتداد المشرق العربى ووادى النيل والمغرب العربى الكبير. إنها ليست فقط مأساة للتنمية الاقتصادية، أو الاقتصادية ــ الاجتماعية، ولا حتى الاقتصادية الاجتماعية ــ السياسية، ولكنها مأساة معقدة ذات شُعَب، وما هى بمحض مأساة مركبة من عنصرين أو نحوهما.
الحق أنه حين يتأمل المرء فى «المأساة العربية» تلك، يأخذ منه العجب مأخذه، و(يستغرب)..! فما الذى جعل تلك البقعة من الأرض، وهذه الجماعة من الناس، فيما يعرف من اجتماع الوطن والشعب بـ«الأمة العربية»، تبدو، فى الفترة التاريخية الراهنة بالذات، على هذا النحو المشهود حاليا «من التعثر المزمن» و«الضياع المعمّق» خلال مسيرة التنمية والتوحد والاستقلال كمشروع تاريخى. ثم إنها وكأنها «ألعوبة» أو «أرجوحة» فى يد قوى غريبة، غربية ــ صهيونية، تجعل منها مثلما قال البعض يوما بمثابة (ميدان ضرب نار).. ساحة للتدرّب على الحرب والنزال، أو تجعل منها، مثلما قال البعض يوما فى معرض النهْى عن لبنان الجريح، ممرْا ومقرا.. ممرا يعبر منه العابرون، إلى حيث يذهبون، ومقرا يستقر فيه من يقيم ليغنم ما يغنم على فترات تطول وتقصر، أفرادا وجماعات، ودولا كاملة أو مجموعات دولية..!
•••
فلماذا يا ترى..؟
لماذا يتهافت (الشرق والغرب) على «القصعة» العربية، فينالون ما يريدون أو بعض ما يريدون، ثم يمضون، كما هى الحال فى (الخليج وليبيا)..؟ حتى «شذاذ الآفاق» من هنا وهنالك، كما كنا نقول، أتوا واستقروا فى شطر منها، وقالوا لن نبرح المكان، ولن نسمح لأهلها بممارسة البقاء والحياة: (فلسطين). وكيف أن بلادا بأكملها، أغلقت لحساب التأمين المحتمل للمشروع الصهيونى؛ وهذا حال «الشام الكبير» أى سوريا ــ لبنان، بما فيه الأردن وقبله فلسطين التاريخية، بل ولم لا نقول العراق أيضا، درّة العقد فيما أسماه البعض «الهلال الخصيب».. ولم لا نقول إن ذلك أيضا قد جرى من خلال الترصد لدولة مركزية هى مصر، ومحاولة جذْبها من طوْقها، عبثا، ناحية الامتداد الشرقى المعادى صهيونيا، وتأليبها (وتأديبها) من وقت إلى آخر، فضلا عن العدوان المسلح الواسع على أراضيها بين فينة وأخرى..! وتكون النتيجة لذلك حتى بعد (إبرام السلام) منذ أكثر من أربعين عاما، أو زهاء نصف قرن، أن تجرى المحاولة تلْو المحاولة، على قدم وساق، من أجل أن تبقى مصر فى أحسن الأحوال، من وجهة نظرهم هُمْ، «طافية» فوق سطح الماء، فلا هى مُغرَقة تماما، ولا هى تخرج بالسلامة إلى شطّ الأمان أو تسبح فى حرية طليقة حيث تشاء.
لعل هناك أربعة أسباب، فيما نرى أو نظنّ، جعلت (من هب ودب) يهفو ويتهافت على (ميدان ضرب النار..!) العربى الوسيع ذاك:
1ــ وفرة مورد النفط والغاز، حيث الثروة العظيمة الناضبة، فى منطقة جغرافية تكاد تكون فى جانب منها، خالية من ساكنيها، حيث «الفراغ الديموغرافى» المتفاوت، إلا من هجرة شرق آسيوية غالبة، ذات آثار خطِرة، حالّة أو مؤجلة إلى حين..!.
2ــ وجود إسرائيل، الذى يستتبع محاولة تأمينها بالإضعاف المبرمج لكل من هم حولها، بدءًا من الحرص على اختلال «توازن القوى الاقتصادى والعسكرى» لصالحها بالذات، وانتهاءً بـ(رفع العصا لمن عصا)، مع استخدام أسلحة (الترغيب والترهيب) المجرّبة...!.
3ــ رابطة «العروبة» كوشيجة جامعة لمنْ بين المحيط والخليج، وعروة وثقى من التكوين الحضارى عبر الزمن، ومن المستقبل المأمول المشترك.
4ــ قدرة كوامن «الإسلام الحضارى» كجامعة ثقافية مؤتلفة مع المسيحية الشرقية، عمادا للتاريخ المشترك، ورافعة أساسية من روافع التكوين الاجتماعى بمدلوله العريض.
لهذه العوامل الأربعة، اجتمع الغرباء والطامعون (وشذّاذ الآفاق)، وإن شئت فقل، بالتعبير الأكاديمى لدارسى العلاقات الدولية: اجتمع الاستعمار القديم والجديد و«الإمبريالية الصغرى ــ إسرائيل»، لتحقيق أكبر عائد ممكن لهم، وتجريد الأرض والناس على الرقعة العربية الجامعة من عوامل القوة الفعلية أو الكامنة حتى أمد بعيد.
•••
ومن أجل ذلك رصدنا عشرة أحداث جليلة، تمثل علامات على «المأساة العربية» المزمنة، فى نطاقها الآسيوى ــ الإفريقى، خلال ثلاثة أرباع قرن مضى، بما فيها العقد الأخير أو العقدين الأخيريْن:
1ــ الدائرة المفرغة للتقلّب السياسى والنظامى فى السودان الشقيق.
2ــ «طبوغرافية» الحياة السياسية «المحدّبة» فى جمهورية مصر العربية، باتجاه تعاظم قوة عنصر معيّن من عناصر القوة السياسية، دون تخلّق البديل المناسب عبر الزمن، بالقدر الضرورى الكافى.
3ــ ربيع ــ خريف: سوريا وليبيا.
4ــ «العشرية السوداء» فى الجزائر(1988ــ 98 تقريبا)، ومآلاتها وظلالها الراهنة.
5ــ الحرب الأهلية وتوابعها الباقية: لبنان.
6ــ الغزو والاحتلال الأمريكى المباشر عام 2003 ثم غير المباشر: حالة العراق.
7ــ «الإقصاء الدامى» أو «التهميش العنيف»: اليمن ــ الصومال.
8ــ الإقصاء غير الدامى أو «الصامت»: حالة موريتانيا أو «شنقيط» مثالا.
9ــ فاجعة أو فواجع «الديمقراطية التمثيلية» أحادية البعُد: تونس نموذجا، وربما المغرب الأقصى أيضا، فى حدود معينة.
10ــ ما يمكن أن نسمّيه (مستودع الأمان المشروط للغرب اقتصاديا وعسكريا): الخليج، وليبيا فى حالتها الراهنة إلى حد ما.
وفى الأخير، إنّا لندرك أن مسيرة التطور والتغير التاريخى فى بلد أو منطقة ما، تعتبر محصلة للتشابك بين نوعين من العوامل، لا انفكاك بينهما، ولا انفراد لأحدهما دون الآخر، وفق ما ذكر عالم الاجتماع من أعمدة مدرسة «نفْى التبعية» فى الفكر التنموى المعاصر، أندريه جوندر فرانك. ونقصد كلًا من: التكوينات الاقتصادية – الاجتماعية المحلية (بمعناها الواسع)، من جهة أولى، والعوامل الخارجية، بما فيها أعمال الاختراق الموسّع بسلّة أدوات متنوعة، بدءًا من «التلامس الناعم» وانتهاء بالحرب العدوانية؛ من جهة أخرى. ويتداخل العاملان المذكوران بقوة فى حالة «الدراما العربية»، ولكن يبدو لى أن العامل الخارجى له الغلبة حتى الآن. فكيف ستكون ــ عربيا ــ مقاومة التأثير ومعاودة الانبعاث؟ هذا هو السؤال، موجّهٌ إلى «نخبة النخبة» الواعدة.
.... وإنها لمجرد «نظرة طائر محلّق»، يطلّ من حالقٍ على الغابة الواسعة كثيفة الأشجار..!