كان أمير الشعراء أحمد شوقى يخاطب لورد كرومر حاكم مصر الاستعمارى هجاء له وللاحتلال البريطانى، واحتجاجا على أحكام قضية دنشواى، ويمتدح عصر الخديوى اسماعيل.
لكن الخطاب فى هذا المقال ليس للهجاء ولا للمدح، بل للتذكير بأوجه الشبه الواضحة بين أوضاع مصر الاقتصادية الحالية، وبين أوضاعها فى عهد اسماعيل، وهى الأوضاع التى أدت إلى الثورة العرابية، فالاحتلال البريطانى، من أجل حماية حقوق الدائنين، إلى جانب الأهداف الأمبريالية الأوسع.
ويستهدف المقال فى الوقت نفسه التذكير بالطريقة التى أنقذ بها كرومر المالية المصرية، وهى طريقة لا تزال صالحة، مع الاحتفاظ فى عقولنا وقلوبنا بكل البغض للاستعمار، والكراهية والرفض لاعتقاد ذلك اللورد بأن الشعب المصرى هو شعب تابع بفطرته، ولا يستطيع، ولا ينبغى أن يستقل بشئونه، ومع التصميم على ألا نستدعى وصاية أجنبية مرة أخرى على «ماليتنا»، ممثلة فى صندوق النقد الدولى، أى نكون قادرين على إدارة شئوننا المالية بكفاءة وأمانة.
ما الذى فعله لورد كرومر إذن، والحديث منصب فقط على سياسته الاقتصادية؟
سارت هذه السياسة على ساقين، الأولى هى تنظيم مالية البلاد، والثانية هى الاستغلال الكفء لمواردها، وتعظيم هذه الموارد، دون أن يحصل لمصر على أية موارد جديدة من خارجها، لا معونات ولا قروض، إلا قرض البداية.
لكى ينظم عميد الاحتلال المالية المصرية، فإنه بدأ بتوحيد كل الديون على مصر فى دين واحد، وأنشأ بالاتفاق مع الدائنين صندوقا لإدارته يعرف فى تاريخ مصر بصندوق الدين، ويضم ممثلين لمصر ولكل أصحاب الديون، ويديره خبراء على أعلى درجة من الكفاية، وكان هذا الصندوق هو الذى يتولى ــ وفق جدول ــ تحصيل الأقساط والفوائد، ويسددها وفق هذا الجدول.
وبما أن الديون الشخصية على الخديو السابق اسماعيل ضمت إلى الدين الموحد على الدولة، فقد حصل كرومر للدولة مقابلها على أطيان من الدائرة السنية (أى أملاك الخديو وأسرته)، لتتحول هذه الأطيان إلى ما يعرف فى تاريخ مصر الاقتصادى بالدومين العام، وأنشأ شركة لاستثمارها، وإدارتها، ولسداد الضرائب عنها، وفى خطوة لاحقة قرر بيع مساحات كبيرة من هذه الأراضى، مستخدما حصيلة البيع لدعم صندوق الدين، وموازنة الحكومة، فضلا عن التزام الملاك الجدد بسداد الضرائب، التى لم يكن الخديو وأسرته يسددونها، لأنهم كانوا فوق القانون، وقد كانوا يملكون ما قيمته مليون فدان تقريبا من اجمالى الأرض الزراعية.
كذلك ألغى اللورد الاستعمارى نظام العمل بالسخرة فى مزارع الأسرة العلوية، ومزارع كبار الملاك، وفى المرافق العامة، مما ولد قوة شرائية جديدة فى السوق سوف تساهم فى تحريك عجلة النمو.
وكان الرجل قد ألزم الأسرة المالكة بدفع الضرائب عما تبقى لها من أملاك، وكان هو الذى حظر زراعة التبغ نهائيا فى مصر، كى يضطر المصريين إلى استيراده بنسبة جمارك عالية لزيادة الحصيلة المالية لسداد الديون، وللإنفاق العام، والمدهش أن هذا الحظر ظل معمولا به طوال كل العهود التى تعاقبت.
كما كان قد ألزم نفسه بنشر تقرير سنوى على العالم كله، يتضمن من أين جاء، وأين ذهب كل قرش فى المالية العامة، وهو ما نسيته مصر منذ حلول أسرة يوليو 1952، محل الأسرة العلوية، وما نسميه الآن بالشفافية المالية.
وماذا فعل لتحقيق الاستغلال الكفء لموارد مصر الاقتصادية، وتعظيم هذه الموارد؟
بعد إنشاء الدومين العام، وبيع أملاك الدائرة السنية، بما تضمنه ذلك من زيادة كفاءة انتاجية كل منهما، اتجه إلى تحسين نظام الرى، فأدخل اصلاحات جذرية على القناطر الخيرية، وأنشأ شبكة الترع والمساقى الفرعية من رياحات الوجه البحرى الثلاثة، وكذلك المصارف، وهو ما أدى إلى التوسع الكبير فى زراعة القطن، لدرجة أنقذت الاقتصاد المصرى من انهيار جديد فى أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، وذلك عندما انخفضت الأسعار العالمية بمعدلات كبيرة، لأن الزيادة فى الإنتاج عوضت الانخفاض فى الأسعار وزيادة.
استكمالا لترقية نظام الرى نفذت المرحلة الأولى من خزان أسوان، وكان من نتائج هذه الخطوة التوسع فى زراعة قصب السكر فى الصعيد.
وتنتقل اصلاحات كرومر الاقتصادية فى مصر خطوة كبرى، بتبنيه شخصيا مشروع ادخال صناعة حلج الأقطان الآلية إلى مصر لأول مرة فى تاريخها، واتساقا مع هذه الرؤية كان كرومر أيضا هو القوة الدافعة وراء إنشاء البنك الأهلى المصرى، لتوفير المؤسسة المحلية اللازمة للتوسع فى تجارة القطن، وغيرها من الأنشطة الاقتصادية، كما كان القوة الدافعة وراء مد شبكة السكة الحديد إلى معظم أنحاء المعمور المصرى، وتوج هذه الإصلاحات بنظام تعليم كفء لتخريج موظفى الحكومة، ليحل المصريون محل الأفندية الأتراك والجراكسة، وهو النظام الذى يعرف باسم (دانلوب) المستشار الانجليزى لوزارة المعارف.
صحيح أننا الآن نعيب على هذا التعليم، لأنه كما قلنا استهدف فقط تخريج الموظفين، ولكنه سد احتياجا وطنيا واقتصاديا وقتذاك.
لماذا كان على مصر أن تنتظر لورد كرومر لكى يفعل ما فعله لإنقاذها من الأزمة المالية ؟
الإجابة باختصار هى أن أيا من خلفاء محمد على لم يمتلك رؤية، وعزيمة الباشا الكبير، أو ما يسمى فى أيامنا هذه بالإرادة السياسية، مع انهم جميعا توارثوا عنه إيمانه الجازم بأن بريطانيا العظمى تخطط لامتلاك مصر مهما يطل بها الزمن، ولهذا رفض فى حينه مشروع حفر قناة السويس.
وبلغة هذه الأيام، فقد كانت عقيدة (ولا أقول نظرية) المؤامرة الأجنبية على مصر مترسخة فى ضمائر وعقول حكام الأسرة العلوية التالين للجد الأكبر، ولكنهم دخلوا اليها من الباب الواسع للديون، التى لم تكن فى معظمها لا ضرورية، ولا منتجة، تارة لدفع حصة مصر فى أسهم قناة السويس، وأخرى لغزو مجاهل أفريقيا، وثالثة لشراء لقب الخديو بدلا من الوالى من السلطان العثمانى، وتغيير نظام ولاية العهد، ورابعة من أجل الاحتفالات الضخمة، والعمارة الحديثة، والهبات والإنعامات.
***********
تراثنا يقول: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، لذا لا مانع من استلهام، النجاح الاقتصادى للورد كرومر فى مصر، بل إن هذا الاستلهام من أوجب الواجبات، لاسيما وأن الجميع يرون الخطر، ويتحدثون عنه رسميا وشعبيا، بعد أن اقترب حجم الدين العام من حجم الناتج القومى الاجمالى.
لقد استبشرنا خيرا بضم 10% من أموال الصناديق الخاصة إلى أول موازنة عامة للدولة فى عهد السيسى، ولكن المسألة توقفت عند هذا الحد، وقد كان ولايزال ضم هذه الصناديق إلى الموازنة العامة ضرورة من ضرورات تنظيم مالية الدولة، ويوازى ذلك فى الأهمية اخضاع جميع الأنشطة المولدة لربح للضرائب سيادية أم غير سيادية، مع ضرورة الأخذ بنظام الضرائب التصاعدية، ليس لأسباب اجتماعية فقط، ولكن لتعزيز المالية العامة بمورد مستحق أيضا، وأما مكافحة الفساد فهى فقد باتت إلزما الآن منها فى أى وقت مضى، إذ لا جدوى لأى جهد مع استمرار هذا الفساد.
كل ما سبق يدخل فى باب تنظيم مالية الدولة، أما تعظيم موارد مصر، فليس له الآن من سبيل أسرع ولا أهم من انقاذ الصناعات الراكدة أو المتوقفة، والتوسع فيها، ليس فقط من أجل الاحلال محل الواردات، ولكن أيضا من أجل التصدير السلعى كمورد غير متقلب للعملات الأجنبية.
لن أطيل فى شرح ما هو مشروح بذاته فى أهمية الصناعة للإنتاج القومى، وفرص العمل، وزيادة الحصيلة الضريبية... الخ، ولكن ما أود التركيز عليه هنا هو أن كل حديث عن تشغيل المصانع المعطلة، (فضلا عن إقامة صناعات جديدة ) ينتهى إلى لا شىء، فقد تعهدت بذلك جميع الحكومات بعد ثورة يناير، وأعلنت إحداها برنامج تشغيل الف مصنع، ثم لا شىء، فهل من تفسير؟
أخشى أن يكون التفسير هو الذى قاله المهندس محمد عبدالوهاب وزير الصناعة الأسبق فى مؤتمر «استلهام تجربة طلعت حرب فى إعادة التوازن للاقتصاد المصرى» يوم 28 نوفمبر الماضى بجامعة القاهرة من أن «السياسة المصرية لا تحب الصناعة، أو أن الصناعة دمها ثقيل على قلب السياسيين المصريين»، ليس الآن فقط، ولكن منذ عشرات السنين، ولا يجدى هنا التذرع بنقص الأموال، لأن المليارات تدفقت من الخارج، وجمعت من الداخل، ولكنها ذهبت فى كل اتجاه، إلا الاتجاه إلى الصناعة.
لقد صدمت عندما سمعت فى زيارة مع قريب مريض لأحد المستشفيات الكبرى أن عليه أن ينتظر وصول جرعة اليود المشع من إيران أو تركيا، بعد أسبوع أو اثنين، حسب التساهيل، وتذكرت أننا كنا فى الستينيات ندرب هنودا وغيرهم، فى مفاعل انشاص النووى، وتذكرت الزفة التى أقمناها احتفالا بمفاعل جديد من الارجنتين، لكى نغطى احتياجات المنطقة، من الاستخدمات السلمية للطاقة النووية، والدلالة المأساوية هنا أن كراهية السياسة للصناعة لم تبق ولم تذر، فى المحلة وحلوان وشبرا الخيمة وكفر الدوار ونجع حمادى وأسوان حتى أنشاص.
************************************
على فكرة بقية بيت الشعر الذى خاطب به شوقى بك اللورد كرومر هى:
أم أنت فرعون يسوس النيلا؟
ربما نعرف لماذا أصبح النجاشى ــ وليس ــ هو الذى يسوس النيل الآن.