كتبت فى صحيفة الدستور قبل شهور عن تجربة الكاتب البريطانى تيموثى جارتون آش حين انتهز فرصة سقوط حائط برلين وفتح ملفات جهاز أمن الدولة فى ألمانيا الديمقراطية، ليطلب الاطلاع على الملف الخاص به الذى احتفظ به الجهاز لسنوات عديدة قبل أن يقع فى أيدى أجهزة الأمن فى ألمانيا الغربية. كانت تجربة مثيرة لشخص يريد أن يعرف أسماء من وشوا به، والضباط الذين حققوا معه وعذبوه، ويقرأ التقارير المكتوبة عنه. عرفت بعد ذلك أن آش انتهز الفرصة لأنه أراد أن ينسى الموضوع. وما كان له أن ينساه بدون أن يتوصل إلى إجابات عن أسئلة ظلت تلاحقه منذ الإفراج عنه.
****
وكاتب مصرى كبير دأب على أن يتحدث فى كل مناسبة عن حلم يراوده دائما وهو أن يطلع على الملف الخاص به فى جهاز الأمن المصرى. يحكى الكاتب المصرى أن معلومة معينة موجودة فى هذا الملف ظلت تطارده وتقلق منامه وتحرجه فى سفره ذهابا وإيابا، منذ كان شابا صغيرا يدرس فى الخارج ويشارك فى مؤتمرات الطلبة ويواظب على حضور محاضرات المفكرين اليساريين وينبهر بما يقولون ويصرح بهذا الانبهار. أنهى بعثته وعاد إلى مصر ليكتشف أن وظائف تقدم لها وفرصا للترقية ضاعت بسبب هذه المعلومة التى كانت تظهر دائما فى الوقت المناسب للجهة المناسبة. تمنى، وما زال بعد خمسين عاما يتمنى، أن يختفى هذا الملف، فينسى الأمن هذه المعلومة، ويتوقف عن تداولها، وينسى هو نفسه هذه المسألة.
النسيان فضيلة. لا أدرى كيف كان يمكن أن تكون عليه حياتنا لو أننا فقدنا هذه الفضيلة. ما أكثر من يريدون نسيان الماضى أو بعضا منه. كثيرون نجحوا فى تغيير الماضى اعتمادا على نعمة النسيان عند الآخرين. وما كان يمكن لأحد من هؤلاء أن يغير ماضيه لو بقيت ذاكرة الآخرين متوقدة، وما أكثر الرسائل التى كتبناها ونتمنى الآن أن لا يذكرها أحد، وكم كلمة نطقنا بها وندمنا عليها ونتمنى ألا يرددها أحد. كلنا، أو أغلبنا، اعتمدنا على النسيان لنواصل حياتنا بعض الناس تلاحقه السابقة الأولى أو الخطيئة الأولى ويتمنى أن ينساها وينساها الآخرون، ولكن كثيرا ما يكون الإنسان عدو نفسه. ألم يكن هو الذى اخترع الملفات والمحاضر ليحارب بها النسيان كما اخترع من قبلها، الورق والكتب والوثائق والمكتبات؟!
****
بفضل هذا الإنسان جاء عصر الذاكرة المكتملة، العصر الرقمى، ليصنع له ذاكرة أخرى بديلة، إنما أخطر وأسوأ. إذ أدى اعتماده المتزايد على الشبكة الإلكترونية إلى إضعاف قدرته على التذكر فانكمشت سعة ذاكرته بينما زادت قدرات ذاكرته البديلة.. ذاكرة الشبكة. اعتمدنا قبل الشبكة على أن النسيان هو دائما القاعدة وأن التذكر هو دائما التحدى. جاء يوم لم يعد النسيان فيه قاعدة بعد أن صار واقعا، ولم يعد التذكر تحديا بعد أن أصبحت تقوم به عقول إلكترونية غير مدربة على النسيان وغير مهتمة بفوائده.
كانت أسرارنا، فى زمن الورق والملفات والمكتبات، بعيدة عن التداول السهل، فكان يسيرا علينا ممارسة النسيان حتى تعودت ذاكرتنا الطبيعية على حفظ حجم محدود من المعلومات. ولكن فى الزمن الرقمى اتسعت ذاكرتنا «الاصطناعية» إلى حدود رهيبة. ومع هذه الذاكرة الرهيبة أصابنا ما أصاب «فونيس صاحب الذاكرة الفائقة» فى رواية بهذا العنوان لخورخى لويس بورخيس الكاتب الأرجنتينى المعروف. ففى الرواية يفقد فونيس القدرة على نسيان كل شىء ففقد بعدها الإحساس والقدرة على التفكير المجرد والحكم على الوقائع والقدرة على المقارنة بين الأوزان والقيم. ضاع فونيس وسط التفاصيل العديدة وحاصرته آلام الافتقار إلى الراحة. فالإنسان يتعبه بل وينهكه عدم النسيان. يقول فيكتور مايير شونبرجر مؤلف كتاب «احذف.. فضيلة النسيان فى العصر الرقمى»، صرنا جميعا فونيس. فقد أصبحت لدينا ذاكرة جماعية هائلة تجعلنا عاجزين عن الحكم على الأشياء والتمييز بينها وممارسة التحليل المنطقى.. وإذا أردت أن تعرف تأثير الذاكرة الجماعية الرقمية على إنسان العصر لاحظ جيدا وراقب بعض أنشطة ما صار يعرف بالحكومة الإلكترونية. تقول إليزابيث لوش فى كتابها «السياسة الخائلية». إن معظم هذه الأنشطة فشل فى تمكين المواطنين ليتعاملوا بشكل أفضل مع الدولة، وإن نجح فى تشتيتهم وتذويبهم بعد أن احتفظت الحكومة الإلكترونية لنفسها بسلطة الرقابة على الناس والاطلاع على خصوصياتهم وأسرارهم كأهم وظيفة تقوم بها مقابل أن يحظى الأفراد بنعمة النسيان.
****
ما أعذب النسيان بشرط أن يترك لنا حرية اختيار ما ننسى وما نتذكر. بدأت أكتب هذه السطور متذكرا إلفيس بريسلى الذى قدم عام 1955 أغنيته عن النسيان والذاكرة وناسيا عنوانها. قدحت الذاكرة ولم تسعفنى.. كان يمكن أن ألجأ لمكتبتى الموسيقية فأحصل فى دقائق على العنوان، ولكنى لجأت إلى الشبكة الإلكترونية حيث توجد ذاكرتى المكتملة، فحصلت على عنوان الأغنية فى ثوان معدودة وكان I forgot to remember to forget .