حين امتدت يد الجنون وألقت بكرات اللهب الى قلب مبنى مدرسة على عبداللطيف، تحفة ميدان سيمون دى بوليفار، انهارت بداخلى أعز ذكريات الصبا التى عشتها تلميذا فى واحدة من أعرق مدارس القاهرة، فى زمن كانت مصر توفر لجيلها الناشئ معاهد الدرس فى أرقى المبانى والقصور. طفرت دموعى حين تجولت عدسات التلفزيون فى جنبات المبنى الذى مزقته النيران. لم تكن على عبد اللطيف مجرد تحفة معمارية وفنية فريدة فقط ولكنها كانت مجتمعا صغيرا متميزا يغذى 350 تلميذا من أبنائه ــ كانوا كل عدد تلاميذها فى أوائل الستينات ــ بالعلم والثقافة والانتماء للمجتمع. كنت فى فصل المتفوقين فى هذه الغرفة البديعة على يمين الداخل إلى بهو المدرسة الرحيب ذى الأعمدة المنقوشة والسقف المزين بأجمل الرسوم. وكانت جدران فصلى مبطنة بألواح متلاصقة من خشب البلوط الجميل تعلوها دورانات رشيقة وراء كل منها كوة صغيرة وتزينها نقوش بديعة لطالما تأملناها بحثا عن معانيها، وكانت «تختتى» بجوار المدفأة التى احترقت الآن عن آخرها. ذات يوم فى أوائل مارس عام 1963 دخل علينا الأستاذ عبدالمجيد فرحات ناظر المدرسة ليعلن أنه قد وقع علينا الاختيار لنمشى فى جنازة أستاذ الجيل لطفى السيد. كانت أول مرة أسمع اسمه، وبعده بدقائق دخل علينا الأستاذ لويس ميلاد البياضى مدرس التاريخ وكان محدثا بارعا ومعلما يفيض حبا وحماسة للتاريخ والمجتمع وأخذ يحكى لنا من هو لطفى السيد حتى شعرنا جميعا بالحزن لفقده وفهمنا لماذا نظمت مصر الثورة جنازة رسمية وشعبية لأستاذ الجيل الذى كان يدعو للحرية ــ فهمت بعدها معنى أنه كان رائد الليبرالية المصرية.
•••
تجولت الكاميرا فى بهو المدرسة، احترق السلم الخشبى البديع الذى طالما ذرعناه صعودا وهبوطا، تحته كانت قد اقيمت غرفة صغيرة للأستاذ أحمد سليمان، أعظم من درس لنا اللغة العربية، وكان يقوم بدور سكرتير المدرسة، كانت القواعد عقدة العقد فجعل منها هواية لنا ومجالا للمرح والفهم والدعابة ومنه سمعنا لأول مرة أبياتا من ألفية ابن مالك.
لازلت أحفظها ويرن فى أذنى صوته الرفيق الحانى وهو يبتسم لتعجبنا من الأبيات ويشرح ما تعنيه.
لم تتجول كاميرا التلفزيون فى غرفة الناظر الطويلة التى كانت دائما خافتة الإضاءة وكانت جدرانها مبطنة بلوحات من القيشانى الأزرق إن لم تخنى الذاكرة وسقفها مطلى بنقوش ذهبية بديعة، وكان مكتب الناظر يقع بين أعمدة ملفوفة مذهبة. وكثيرا ما كنا ندخلها لنمثل أمام الناظر الذى كان يعرفنا جميعا بالاسم.
•••
تنتفض أمامى خرائط الأستاذ سعد القرنى الذى درس لنا تاريخ الدول الإسلامية مرورا بالخوارج والسلاجقة وكان دائما ضيقا متبرما يشكو من إقبالنا على العلوم بدلا من المواد الاجتماعية، بعكس الأستاذ لويس الذى كان يربط التاريخ بالمجتمع وكان عاشقا للجمال فى مصر. أخذنا مرة فى رحلة للفيوم ووعدنا بأن مناظرها ستكون أجمل من سويسرا وفى الطريق بدأ بعض أشقيائنا يتندرون عليه ويشيرون للطرق الوعرة قائلين هل هذه سويسرا حتى إذا وصلنا الى تخوم بحيرة قارون التفت نحوهم منتصرا مشيرا للمدرجات الخضراء البديعة هاتفا هاهو الجمال يا حيوان منك له وضج الجميع بالضحك. ذات صباح فى أول رمضان كانت حصته هى الأولى فبدأ بتهنئتنا ثم راح بحماس يعدد فضائل الصيام والشعور بالفقير حتى إذا انتهى ابتسم وتساءل بمرح ياترى باعرف أوعظ كويس؟
تجولت الكاميرا الى فصل الإعدادية، لم يحترق لكن بهتت الوان جدرانه. وتقفز إلى مخيلتى صورة الأستاذ كمال الدفتار أستاذ الإنجليزى الذى كان جادا وخجولا معا. كان شديد الاهتمام بمادته وبانضباطنا وكانت له سخرية لاذعة وكان يثق بى ويعتمد على فى نقل الدرجات الى الشهادات الأنيقة التى كانت توزع فى كل شهر تقريرا عن أداء كل منا.
•••
فى الصف الثالث كان يجلس بجانبى أنيس فرج صليب، كنا دائما نتنافس وكنت أعلم أنه أشطر منى لأنه كان أكثر دأبا على المذاكرة بينما كنت أكثر إغراقا فى الخيال. أمامى كان يجلس مدحت درة أحد مشاهير المعمار فى مصر الآن وعلى التختة المجاورة كان يجلس حاتم المليجى المرهف الحس والغارق دوما فى الشعر والخيال اما على الناحية الأخرى فكان يجلس يسرى الإبيارى نجل كاتب الكوميديا الشهير أبو السعود الإبيارى، كان رقيقا مرحا وكان يأتى المدرسة فى تاكسى أو سيارة وكثيرا ما كان يصل متأخرا لكن أدبه ورقته وربما مكانته كانت تمنع من نهره. كان يجلس أمامه نعيم الموهوب فى الرسم، كان يمسك بالقلم الرصاص فتتحول الصفحة فى دقائق الى ميدان ملىء بالحركة والحيوية. كان الأستاذ نجيب عزيز بشاى مدرس الرسم معجبا به وكان نموذجا سابقا لعصره. كان ينفق نصف الوقت المخصص لحصة الرسم فى حديث يلهب خيالنا حول الموضوع ثم يترك لنا اختيار ما نرسم، وكنت أضيق به لأنى كنت أسوأ ما يكون فى الرسم لكنى غدوت مغرما بأحاديثه وتأنقه وسعة اطلاعه. كنا كثيرا ما نجلس خلال الفسحة مع الأساتذة فى المكتبة وننتحدث فى ندية أندهش الآن حين اتذكرها. وذات مرة زار مجدى حسنين عضو مجلس قيادة الثورة المدرسة أثناء الانتخابات وكان ابنا المحامى الشهير عبدالعزيز الشوربجى من زملائنا وكان أبوهما مرشحا أمام مجدى حسنين فوقف أحدهما يومها متصديا له وتكهرب الجو واعتذر مجدى حسنين عن أى هجوم شعر به الشوربجى الصغير. ذكريات كثيرة تتداعى لا يتسع المجال لها هنا، وربما تكون هذه دعوة لكل الزملاء الباقين من عهد على عبد اللطيف الذهبى لعلنا نلتقى ونفكر معا كيف يمكن أن نعيد الحياة لمدرستنا وربما لنضرب مثلا يحتاجه بلدنا.
•••
إن حريق على عبد اللطيف ليس الا امتدادا لحريق المجمع العلمى، علامة أخرى على التخبط والحيرة التى تعترى شعبنا وثورته. إن الثورة المصرية قامت تعبيرا عن رغبة المصريين فى التقدم والنهوض واللحاق بركب الدول المتقدمة. لم تقم الثورة لترتد بالمجتمع لعصور الظلام والاستبداد، فالشعب المصرى متدين بطبعه وليس بحاجة لمن يفرض عليه وصاية دينية. لكن المشكلة أعقد لأن أهداف الإسلاميين اتضح أنها من أجل السلطة فى حد ذاتها وليس من أجل الإصلاح أو الدين. إن الثورة المصرية بحاجة لترجمة واضحة لأهدافها نحو البناء والتقدم والرؤية الطموحة لمستقبل البلاد.