وحده فى القفص.. هكذا تبدو لك الصورة المجردة، لكنك إذا ما دققت فيها أكثر ستكتشف الحقيقة التى تظهر أمامك معكوسة لتخدعك، هو فى الخارج ونحن جميعا فى القفص، هو مطلق السراح ونحن جميعا نرزخ بين أغلال تقيد ليس فقط أيادينا وأرجلنا، لكنها تقيد عقولنا وضمائرنا.
سأقولها لك بوضوح.. وقوف روبرت بيكر فى قفص قضية التمويل الأجنبى وحده بينما كل رفاقه الأمريكيين خرجوا وغادروا وعادوا لبلادهم وربما أطلق لهم «حرس الشرف» 21 طلقة عند المغادرة، هو انتصار حقيقى للأخلاق، أمام مجتمع يتحدث كثيرا عن الأخلاق ولا يمارسها، ويتحدث طويلا عن الدين ولا تجده منعكسأ على سلوكه.
مثل كل الأمريكيين المتهمين فى القضية دفع المعهد الديمقراطى الذى يعمل لصالحه بيكر 330 ألف دولار كفالة لخروجه، وإذا أردت الدقة قل «إتاوة» خروجه، لكن بيكر تمسك بالبقاء فى مصر، لم يهرب فى صفقة سياسية على جثة القضاء المصرى، لكنه وياللغرابة أصر على البقاء متمسكا بإحساسه ببراءته، وثقته فى القضاء المصرى، يحترم بيكر قضاء أهانه أهله وبعض المنتسبين له، لكنه أيضا وهو كبير مدربين فى المعهد ومسئول عن كثير من المصريين الذين مازالوا متهمين، لم تسمح له أخلاقه بالمغادرة والنجاة لأنه أمريكى، فيما له شركاء مصريون يحاكمون وكأن ذنبهم الوحيد أنهم مصريون.
لا يعرف بيكر أنه يسبب حرجا بالغا لأولئك الذين يطنطنون بالحديث عن الوطنية والأخلاق والدين وحتى شموخ القضاء، هو يفضحهم فى كل يوم يقف فيه فى القفص وحده، يفضح كل من شارك تسييس القضاء من البداية، ثم خرج ليتبرأ ويتطهر بادعاءات أخلاقية.
يمثل بيكر جزءا مضيئا من ضمير الغرب، ويذكرك بـ«فيتوريو أريجونى»، وإذا كنت لا تعرفه فهو ناشط سلام إيطالى دافع عن حقوق الفلسطينيين أكثر من كل الذين يسيطرون على المنابر الدينية والسياسية ويمطرون عقلك بالخطب الحنجورية عن الجهاد والكرامة، وتكتشف فى النهاية أنه كلما زادت معاناة الفلسطينيين كلما زادت أرصدتهم فى البنوك.
عاش فيتوريو 4 أعوام فى غزة فى عز الحصار يدافع عن أهلها ويقول: «إنه يريد العدالة لمن لم يعد لهم صوت ولم تعد هناك آذان لسماعهم»، رفع شعار: «كن إنسانا وكفى» وانطلق مطبقا شعاره إلى سلوك واضح، فضح الانتهاكات الصهيونية وسجلها ووقف على الحواجز العسكرية يواجه جنود الاحتلال، وينظم المساعدات الإنسانية ويرافق سيارات الإسعاف لحمايتها، وهى تنقل الجرحى، لكنه دخل غزة على قارب لكسر الحصار عنها، وخرج منها بعد 4 سنوات فى تابوت، لأن متطرفين يزعمون أنهم يتحدثون باسم الإسلام ويعارضون حكم حركة حماس الإسلامية للقطاع، ذبحوه بوحشية، ليس لأنه جاسوس أو عميل، فقط لأنه «مسيحى كافر»، وهم أرادوا تطهير «غزة» من الكفر.
الذين قتلوا فيتوريو لا يفرقون كثيرا عن الذين حبسوا بيكر ومجدوا هذا الفعل، بعضهم تحركهم النعرات الدينية بإدعاء وتطرف، وبعضهم تحركهم النعرات الوطنية أيضا بادعاء وتطرف، لكن أخلاق فيتوريو وبيكر فضحت الجميع، هم جزء من ضمير إنسانى يقدم الأخلاق على الموائمات السياسية، والإنسانية على كل القناعات الدينية، عن فهم حقيقى بأن كل الشرائع مقصدها العدل، والإنسانية المدعومة بالأخلاق هى غاية القصد وجوهره.