فى رأيى أن الجدل حول كلمة شيخ الأزهر فى افتتاح مؤتمر الحرية والمواطنة ضل طريقه، ولو سار هذا الجدل فى الطريق الصحيح، فإنه قد يصل بنا إلى كلمة سواء تساهم فى حل كثير من المشكلات الفكرية والعملية.
لقد بدا للكثيرين وكأن الشيخ يبرر العنف فى التاريخ الإسلامى القديم والمعاصر، بإشارته إلى العنف فى تاريخ المسيحية، واليهودية، فى حين أن «بيت قصيده» كان التساؤل حول أسباب اختصاص الإسلام والمسلمين باللوم والإدانة على ممارسات العنف الدينى، فيما حفل التاريخ بنماذج شهيرة ومخزية أيضا للعنف «المسيحى» و«اليهودى»، وأورد منها الرجل العشرات قديما وحديثا، ولم يخترعها، وبالتالى كان الأولى أن يتركز الجدل حول الإجابة عن هذا التساؤل.
دون التورط فى السفسطة الأكاديمية المستمرة منذ بدأ الاستشراق حول انتشار الإسلام بالسيف، واختصاص الفتوحات الإسلامية بالإدانة وحدها بين كل الفتوحات التى قامت بها جميع الإمبراطوريات فى الماضى، وحتى أوائل القرن العشرين، واستمساك الردود الإسلامية على هذه المقولات بأن التاريخ لم يسجل حالة واحدة أكره فيها أحد على اعتناق الإسلام بالقوة، وأن من أسلموا من بلاد لم تصل إليها الفتوحات يفوق الآن عدد المسلمين فى البلاد التى فتحت قديما، أقول دون تورط فى هذه السفسطة، فإن اجتهادنا فى الإجابة عن تساؤل شيخ الأزهر هو ما يلى:
أولا: العنف والإرهاب باسم الإسلام هو الأكثر تواترا وانتشارا فى العقود الأخيرة، فحوادثه أو جرائمه إن شئنا الوصف الدقيق تقع بمعدل يومى، وتكاد لا تستثنى مكانا فى العالم.
ثانيا: أن العنف الإسلامى أو عنف المسلمين ليس جرائم فردية بل إن وراءه تنظيمات كثيفة العضوية والتمويل.
ثالثا: إن هذا العنف الذى يمارس باسم الاسلام لا يتداخل فى عقائد مخططيه وممارسيه مع أى دوافع غير دينية، كال
دوافع القومية فى حالة الحروب والمذابح التى قام بها الصرب وغيرهم ضد المسلمين فى البوسنة والهرسك، وكحالة المنظمات الصهيونية الإرهابية فى فلسطين، وكحالة الجيش الجمهورى الأيرلندى، كذلك لا يتداخل عنف الإسلاميين مع مطالب التغيير الديمقراطى أو العدالة الاجتماعية، كما حدث فى بعض النماذج فى أمريكا اللاتينية.
أى أن العنف والإرهاب اللذين يمارسهما المتطرفون المسلمون يمارسان بدوافع دينية خالصة، ولأهداف دينية خالصة.
رابعا: بناء على هذه النقطة الأخيرة، فقد انحصر العنف والإرهاب فى الحالة اليهودية أو المسيحية فى قضية واحدة محدودة، وفى نطاق إقليمى محدود أيضا، فى حين يتخذ العنف الإسلامى من العالم كله ميدانا لمعركته، أما قضيته فهى أيضا عالمية النطاق، إذ يستهدف إقامة الحكومة الإسلامية فى كل مكان يمكنه فعل ذلك فيه، وصولا إلى الدولة الإسلامية العالمية، أو الخلافة العظمى، بغض النظر عن رأينا أو رأى غيرنا القائل بأسطورية أو خطأ هذه الأيديولوجية، والاستراتيجيات المتبناة لتحقيقها.
خامسا: بسبب محدودية القضية، ومحدودية النطاق الجغرافى، كان المدى الزمنى للعنف والإرهاب فى الحالات غير الإسلامية محدودا أيضا، أما العنف والإرهاب «الإسلاميين» فيتجددان باستمرار.
سادسا: كل دول العالم ــ عدا الدول الاسلامية ــ نجحت منذ وقت طويل فى بناء النظام السياسى الذى يستوعب جميع التيارات سلميا، بما فى ذلك أشد التيارات والأحزاب تطرفا فى المعتقدات الدينية، أو القومية، وفى الوقت نفسه فإن هذه التيارات والأحزاب نفسها قبلت عن اقتناع بالانخراط فى النظام ، والالتزام بقاعدة السلمية والاحتكام إلى الناخبين.
فى إسرائيل مثلا: هناك دائما متطرفون دينيون وقوميون، بل وعنصريون، فهناك الحريديم أى المتدينون المتزمتون، وهناك الأحزاب الدينية والقومية، وفيهم من يفتى بتحريم قيادة المرأة للسيارة مثل سلفى السعودية، ومنهم من يطالب بتغطية رءوس ووجوه النساء، ومنهم من يجعل قضيته الأولى والأخيرة هى توقف كل صور الحياة فى يوم السبت، باعتبار أن هذا أمر إلهى صارم لليهود، وبالطبع توجد الأحزاب والمنظمات التى تدعو إلى إبادة الفلسطينيين أو ترحيلهم بالقوة، والى هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكل سليمان فورا، ولكن كل هؤلاء لا يلجأون إلى القوة خارج قانون الدولة لتنفيذ أهدافهم، أو فرض أفكارهم على الآخرين، ومن باب أولى فهم لا يحاربون دولتهم ومجتمعهم، ولكنهم يقدمون أنفسهم وبرامجهم للناخبين، ويحصلون أحيانا على مقاعد برلمانية تؤهلهم للمشاركة فى الحكومات، ومع ذلك فإن فهمهم لطبيعة العملية السياسية، وللديمقراطية، يدفع إلى القبول بتحقيق جزء يسير من برامجهم فى اتفاق مكتوب مع الأحزاب الأخرى المكونة للحكومة، بما أنهم فى موقع الشريك الأصغر.
ومن ناحيته فإن النظام السياسى لا يقصيهم، ولا ينزع عنهم الشرعية، ولا يشيطنهم، ماداموا لا يفرضون أفكارهم بالقوة.
وكذلك الحال فى النظام السياسى الأمريكى، الذى يستوعب متطرفين كثرًا، وأيضا فى النظام السياسى الهندى، وفى كل النظم الديمقراطية التى تضم مجتمعاتها متطرفين دينيين.
بالطبع حدثت، وستحدث حالات خروج على القانون واستخدام للعنف والإرهاب، مثل ذلك المتطرف الذى اغتال اسحق رابين لتوقيعه اتفاق غزة وأريحا، أو ذلك الطبيب الذى قتل المصلين المسلمين ذات رمضان فى الحرم الإبراهيمى بالخليل، أو ذلك الذى حاول إحراق المسجد الأقصى، ولكنها تبقى حالات فردية، وليسن نهجا ثابتا ومطردا لتنظيمات سياسية كبيرة أو صغيرة، حتى وإن رغبت هذه التنظيمات فى ذلك سرا، بما أن الدولة تحتكر العنف لنفسها كحق أصيل وحصرى لها وحدها.
فى الكنيسة المعمدانيه بأورلاندو فى فلوريدا، وفى مؤتمر انتخابى لجورج بوش الابن بحضور بوش الأب وزوجته، قدم إلى شاب ثلاثينى منشورا بمطالب اليمين المسيحى، وعندما استعرضته، لفت نظرى أنه يميز بين مطالب تشريعية، وبين توصيات أدبية، وكان حظر تمويل الإجهاض بين قائمة المطالب التشريعية، فيما كانت مناهضة العلاقات الجنسية قبل الزواج بين قائمة التوصيات، فسألته: ولماذا لا تضعون حظر الجنس دون زواج ضمن المطالب التشريعية؟ فأجابنى: لأن الأخلاقيات لا يمكن أن يصدر بها قانون.
فإذا كان المتطرفون الأمريكيون مقتنعين بعدم المطالبة بسن قوانين تفرض قيمهم الأخلاقية، وهذه وسيلة ديمقراطية، فلنا أن نتصور إلى أى درجة هم إذن يرفضون استخدام العنف والإرهاب ضد الأفراد أو الدولة لتنفيذ أهدافهم، ولنا أن نقارن بين هذا المنطق، وبين منطق الداعين عندنا كل يوم إلى «إزالة المنكر باليد» فى دعوة إلى الفوضى، واغتصاب حق الدولة فى إنفاذ القانون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن هذه الأسباب الظرفية الخمسة التى تفسر حصر تهمة الإرهاب «الدينى» فى المسلمين، ونزوع البعض لاتهام الإسلام نفسه، لا تنفى تحامل كثير من الدوائر السياسية والإعلامية على الإسلام والمسلمين، وفى مقدمتها بطبيعة الحال الدوائر الموالية للصهيونية العالمية، أو الخاضعة لنفوذها، وكذلك دوائر اليمين العنصرى فى عموم الغرب، والأصولية المسيحية الأمريكية على وجه الخصوص.
الأدلة على وجود هذا التحامل كثيرة، فيدخل فيها تواطؤ الكتيبة الهولندية مع مجرمى الحرب الصرب والكروات فى مذابح مسلمى البوسنة والهرسك، وهى ثابتة باعتراف الأمم المتحدة، ومن بينها تهجمات بابا الفاتيكان «المستقيل» على الإسلام وعلى رسوله محمد صل الله عليه وسلم، وتهجمات نائب الرئيس الأمريكى الجديد مارك بنس على الإسلام، والمسارعة إلى نسبة أى عمل إرهابى إلى المسلمين قبل التحقق الكافى.. الخ.
كذلك تمارس هذه الدوائر خلطا متعمدا بين المقاومة المشروعة للاحتلال والظلم وبين الإرهاب، بهدف وصم هذه المقاومة بالإرهاب ونزع شرعيتها، حتى إذا حصرت المقاومة هجماتها فى الأهداف العسكرية، وكفت عن استهداف المدنيين، فقد صنف حزب الله اللبنانى كمنظمة إرهابية وهو يقاتل لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلى، وكذلك يصنف الفلسطينيون الذين يتصدون لجنود ومدرعات الاحتلال، وللمستوطنين الغاصبين لأراضى الضفة، وهذا أيضا ما وصفت به المقاومة العراقية قبل أن تظهر القاعدة ثم داعش هناك، وماوصفت به المقاومة الصومالية للمحاولة الفاشلة لاحتلال البلاد أمريكيا تحت علم الأمم المتحدة، بل هذا ما كانت توصف به المقاومة الأفغانية للاحتلال السوفيتى فى الدعاية الشيوعية فى كل مكان، حتى من جانب بعض الشيوعيين المصرييم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماهى إذن الكلمة السواء التى نأمل أن يصل إليها الجدل حول تساؤل شيخ الأزهر لماذا الإسلام وحده هو المتهم بإنتاج العنف والإرهاب، بينما أنتجت المسيحية واليهودية بدورهما الكثير والكثير منهما؟
أول الواجبات هو أن يدرك المسلمون هذه الأسباب، ومن ثم يجب على التيار الرئيسى بينهم تركيز وعيهو جهده على نزع المشروعية الدينية لاستخدام العنف لفرض الاختيارات السياسية، والاقناع والاقتناع بأن مأساة المسلمين تكمن فى تخلفهم ووقوعهم فى منطقة تقاطع النيران بين حكومات إقصائية فاشلة، وبين تنظيمات بالية الفكر، وفاشية الأساليب، وليست المشكلة فى الأديان الأخرى وأصحابها.
أما غير المسلمين من مواطنينا مصريين وعرب، فلعلهم فى حاجة إلى التذكير بأن الحديث عن العنف فى الأديان الأخرى يعنى من ما بين ما يعنيه أن الإرهاب «الاسلامى» إلى زوال، مثلما انحسر الإرهاب «المسيحى»، بزوال أسبابه، مع الاقرار بأن الإرهاب اليهودى أصبح فى معظمه الآن إرهاب دولة.