هواية من هواياتى القليلة قراءة خطب رؤساء الدول وما ينشرونه من رسائلهم الخاصة وما يكتبونه من مذكرات، وبخاصة ما يكتبونه هم بأنفسهم من مذكرات وليس ما يكتب لهم. لا أذكر أننى استفدت كثيرا، سياسيا أو لغويا، من قراءة خطب الملوك والرؤساء العرب ربما باستثناء بعض خطب ملك من ملوك المغرب، ولا أذكر أننى قرأت مذكرات لملك أو رئيس عربى أو رسائل غرام تبادلها مع معشوقة أو خطيبة عندما كان شابا، أو بعدما صار رئيسا.
رغم ذلك كانت لهفتى دائما مستعرة للاقتراب من حقيقة هؤلاء الرجال الذين ساقتهم الأقدار ليحكموا علينا ويتحكموا فينا ويتدخلوا فى خصوصيات حياتنا. خرجوا من الحكم، أو من الدنيا، ولم يكتبوا بأقلامهم قصة حب، نطل من خلالها على بعض تفاصيلهم ونحلل جوانب من شخصياتهم.
شاهدنا فصولا من حياة الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون، وقرأنا عن أعمال «الشقاوة» التى مارسها طالبا ومحاميا ورئيسا، كانت له جولات عاطفية، اشتهر القليل منها بسبب جشع الأطراف الأخرى فى بعض هذه الجولات أو بسبب الرغبة فى الشهرة، ولكن فى كل ما نشر أو وصل إلى علمنا لم يترك كلينتون للتاريخ قصة واحدة تؤهله ليكون عضوا فى قائمة الشرف التى تضم أشهر العشاق فى تاريخ الحب.
يذكر كثيرون، ولا شك، المحاكمة التاريخية التى قررت المؤسسة الحاكمة الأمريكية إجراءها لإنقاذ منصب الرئيس، وليس بيل كلينتون شخصيا، من فضيحة دوت أصداؤها فى جميع الأرجاء، وهددت المكانة الدولية للولايات المتحدة. ظل الناس فى خارج دول الغرب يعتقدون أن الفضيحة ستقضى على مستقبل الرئيس الأمريكى كرجل سياسى ولاعب دولى، وعلى حياته العائلية ومصالحه المالية. وكان ظنا خائبا، فالرئيس استمر رئيسا حتى نهاية مدته القانونية. والزوجة حافظت على زوجها والابنة على أبيها بل وارتفع شأن الزوجة حتى كادت تصبح رئيسة تجلس فى الغرفة البيضاوية، الغرفة التى كانت مسرحا لعملياته العاطفية. لم يختفِ الرئيس أو يتوارى بعد رحيله عن البيت الأبيض بل اشتغل بائعا للكلام، فهو يلقى المحاضرات، وبعضها سخيف وتافه، مقابل آلاف المئات من الدولارات، وكعادة طونى بلير رئيس وزراء إنجلترا الأسبق خرج منافسا لكلينتون فى سوق الكلام وحقق أرقاما قياسية دفعت أكثرها دول خليجية تقديرا لخدماته وبعض هذه الخدمات أضر بشعبه وبلاده.
●●●
بنزول بارك أوباما إلى ساحة الانتخابات الأمريكية قبل أربعة أعوام أدركنا أننا إزاء «عبقرية كلامية حديثة». وتأكد إدراكنا. فالرجل لم تفته مناسبة إلا وقدم للأدب الإنجليزى رائعة حديثة، سواء أسطرا قليلة، أو فقرات فى خطاب استهلك إلقاؤه ساعة أو أطول. قيل إنه كان مبدعا فى الكتابة والخطابة عندما كان طالبا، وربما كان إبداعه هذا السبب فى اختياره رئيسا لتحرير إحدى أهم دوريات جامعة هارفارد. شعرت، وشعر غيرى، لمرات عديدة أن أوباما «يتصنع» فهو يختار كلمات غريبة على أذن أمريكية تعودت على كلمات «تليفزيونية»، والأسوأ منها، كلمات من ثمار ثقافة فيس بوك والتغريد والتدوين والرسائل الإلكترونية.
ولكن قيل أيضا، هو يذكرنا بصديق كريم رحل عن عالمنا. كان الدكتور أحمد صدقى الدجانى لا يتصنع أو يتجمل فيما يكتب، هو بالفعل مثل باراك أوباما، كلاهما يكتبان ويتكلمان على هذا المستوى الراقى من اللغة الرصينة وبالفصحى، أيا كانت المناسبة وأيا كان الشخص المتوجه إليه بالكلام. حدث منذ أيام أن قامت إحدى صديقات باراك أوباما التى ارتبطت معه بعلاقة غرامية خلال فترة الدراسة الجامعية بنشر مذكراتها وضمنتها رسالة من رسائله الحميمة. أستطيع أن أتخيل وقع الرسالة على الفتاة التى تطلعت لقراءة رسالة حب فإذا برسالة يتحدث فيها عن «الثنائية التى يتمسك بها الشاعر اليوت، والتى تكشف عن رجعية فى التفكير والمعتقد. ولا شك أنها تعود إلى قدرية عميقة وليس إلى جهل صاحبها، هذه القدرية نتجت عن العلاقة بين الخصوبة والموت.. وهى العلاقة ذاتها التى تحدثت عنها فى رسالتى السابقة إليك. الحياة بهذا المعنى، تتغذى على نفسها. هذه هى القدرية التى تقوم عليها التقاليد الغربية».
قرأت الرسالة وأشفقت على الفتاة وكل فتاة قادتها الظروف لتقع فى حب باراك وأمثاله أو فى حب كلينتون وأمثاله.
●●●
قرأنا ونقرأ كل يوم روايات من سير حياة مرشحى المناصب العليا فى دول عديدة . روايات من الولايات المتحدة وفرنسا والصين وروسيا واوكرانيا والهند وجنوب أفريقيا وإيطاليا وإسرائيل وإيران وأفغانستان وتركيا. ولم نقرأ رواية من مصر رغم وفرة المرشحين لمنصب الرئاسة ومناصب أخرى على الطريق. أكاد أسمع الرد المعتاد والسخيف فى آن واحد، وهو أن ثقافتنا لا تسمح وأخلاقنا الشرقية لا تجيز والستر أمر لا يعصى.