مرت سنتان من النشاط الشعبى المكثف، وهما السنتان اللتان تدنى فيهما الأداء الرسمى العربى فى ساحات النظام الإقليمى الى مستوى لم يتدن إليه على امتداد عقود. لم يتدن إلى هذه الدرجة عندما انهزمت اكبر جيوش العرب فى حرب1967 واحتلت أراض غالية عليهم. ولم يتدن عندما وقعت مصر اتفاقية صلح مع اسرائيل استرجعت مصر بمقتضاها أرضا تخصها، وفقد العرب بمقتضاها الأمل فى استعادة اراضى أيضا غالية بعضها يخص تراثهم وعقيدتهم وبعضها يخص كرامتهم.
ونشبت حرب بين العراق وإيران قضى فيها مئات الألوف من مواطنى البلدين وأغلبهم من المسلمين وانقسمت بسببها الدول العربية. بعض زعمائها راح يؤيد إيران مثل القذافى وحافظ الأسد ومعهما قادة فصائل فلسطينية، وراح البعض الآخر يدعم العراق بالكلام. كنت فى ذلك الوقت أمارس نوعا من الدبلوماسية العربية تتخصص فى شئون التكامل وتسوية النزاعات بين الأشقاء . كان أليما وقاسيا على النفس أن نسمع ونرى شماتة مسئولين كبار من العرب لا يريدون لثورة ترفع شعارات إسلامية أن تنتصر وفى الوقت نفسه لا يريدون أن ينتصر النظام العراقى لأنهم لم يطمئنوا يوما إلى نواياه بل و كانوا واثقين من أنه يضمر لهم الشر.
انتهت الحرب العراقية الإيرانية مخلفة جروحا غائرة فى جسم النظام العربى، استغلها النظام العراقى. أراد أن يقود الأمة بحجة أنه أنقذها مما اعتبره ثورة إسلامية توسعية فاستدعى القادة العرب إلى قمة تعقد فى بغداد وهناك حاول فرض شروطه. وذهب بعدها إلى حد غزو الكويت منتهزا فرصة انحسار الإرادة المصرية. كان القرار صدمة وهزيمة للنظام العربى الذى لم يقوى على النهوض لمواجهة الكارثة تاركا للولايات المتحدة مهمة تشكيل حلف بقيادتها لتسوية نزاع بين دولتين عربيتين.
بالرغم من هذه النكسات استطاع النظام العربى أن يحافظ على هويته التى هداه إليها كفاح أجيال متعاقبة ضد هيمنة الإمبراطورية العثمانية ثم ضد الاستعمار الغربى معتمدا على ثقة قوية لدى الطبقات الحاكمة العربية فى أن النظام العربى يجب أن يبقى لأنه اثبت رغم اخفاقاته المتعددة ونقائصه الكثيرة أنه لا يزال النظام المناسب الذى يحفظ أمل تكاملهم وعيشهم المشترك ويقدم الدليل على أن العرب قادرون على الاستمرار أمة متعددة الأديان يحفظون ثقافتها ويحافظون على استقلالها.
•••
تغيرت قواعد عمل النظام الإقليمى العربى خلال عامين بسبب قضية سبق أن انتبه إلى خطورتها الآباء المؤسسون للجامعة العربية ومن قبلهم الآباء المؤسسون للنظام العربى. انتبهوا إلى أن العرب إن أرادوا أن يعيشوا ويتعايشوا فى ظل نظام دولى فما عليهم إلا أن يثبتوا لأنفسهم ولدول العالم أنهم قادرون على حماية « الدينى « من « السياسى» وحماية السياسى، أى الدولة، من أخطار الفسيفساء شرق الأوسطية. تعمد الآباء المؤسسون ونجحوا فى أن يبعدوا الدين، نظريا على الأقل وفى وثائق الجامعة والعمل العربى المشترك، عن ساحة الصراعات السياسية العربية. هذا الالتزام السياسى والأخلاقى لم يمنع بعض القادة العرب من خرقه فى مرحلة أو أخرى. وفى هذه المرحلة أو تلك دفع النظام ثمنا فادحا. فى إحدى المرتين دفع الثمن باهظا حين سمح بأن يتحول صراع أيديولوجى بين تيار محافظ وتيار تقدمى موضوعه الأساسى بل الوحيد هو الاختلاف على الأسلوب السياسى والاقتصادى والاجتماعى الأمثل لتحقيق التنمية والتكامل على أسس عصرية. أستطيع أن أؤكد من واقع تطور النظام العربى ومؤسساته أن خسارة العرب نتيجة تصعيد هذا الصراع إلى مستويات دينية كانت فوق احتمال قدرات النظام وقواعد تأسيسه . لقد أدى هذا التصعيد فيما أدى إلى انفراط عقد النخبة التكاملية العربية وهى النخبة التى ساهمت بقدر وافر فى إثراء فكر الاندماج الاقتصادى والتنموى فى مناطق عديدة وبخاصة فى أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب آسيا، أدى أيضا ، مع أمور أخرى، إلى هزيمة 1967.
هذا التحول نحو استخدام الدين أداة لتحقيق طموحات وأهداف نخب حاكمة عربية أساء أيضا وبشدة إلى الدين. قد يعرف أو لا يعرف أنصار الاستخدام غير المحدود أو المدروس للدين فى شئون السياسة وتسوية النزاعات وإنشاء التحالفات وشن الحروب أن القومية العربية انكسرت حين استخدمتها ، أداة لدعم ممارسات القمع والفساد، حكومات دول رفعت شعارات قومية ولم تكن صادقة فى إخلاصها لها بدليل أنها استخدمتها فى غير ما خصصت له. يعرف أنصار إدخال الدين فى تسيير المهام المعقدة للنظام العربى أن القومية كأداة أو عقيدة فشلت عندما وظفوها فى غير مجالها ومع ذلك وببساطة شديدة وباستهانة لا تغتفر يصر هؤلاء الأنصار على توظيف الدين فى السياسة الإقليمية.
•••
ما يحدث هو أن الدين العظيم صار عرضة أكثر من أى وقت مضى لإساءات كبرى بسبب التفسيرات الدينية المتناقضة التى تقدم فى تبرير سياسة أو قرار يتعلق بأمر من صميم السياسة. كان يمكن فى زمن خلى أن توجد معايير نقيس بها التزام القوى العربية الحاكمة التى ترفع شعارات قومية وكثيرون من قادة هذه القوى فقدوا شرعيتهم فلجأوا الى الاستبداد بل الوحشية لإخفاء جريمة انقلابهم على عقيدتهم السياسية ، أو خروجهم على تعاليمها ، كما رأينا فى حالات معروفة ومستمرة حتى الآن.
رحت أبحث فى بلاد عربية تدير أمورها قيادة دينية عن المعايير التى تقيس بها الشعوب الآن مدى التزام حكامهم بأصول الدين وشرائعه لتحقيق مصالح العرب واسترداد حقوقهم من إسرائيل وغيرها من دول الجوار، لم أجد معايير ثابتة متفق عليها بين قادة المذهب الواحد. وجدت تفسيرات متعددة واختلافات شاسعة جاهزة لأن تتحول إلى خلافات عميقة. وجدت كل هذا داخل أنصار المذهب الواحد فما بالنا وقد صارت اختلافات المذاهب فيما بينها وفى داخلها ، صارت هى نفسها موضوعات لصراعات فى قلب النظام الإقليمى العربى.
تدهورت نزاعاتنا العربية بمعنى أنها كانت بين أطراف معروفة وواضحة قبل أن تصبح الآن بين أطراف لا علاقة لها بالسياسة أو بالأمن أو بالتكامل الاقتصادى أو بالحروب والأسلحة الصاروخية والنووية. ما معنى أن يقال فى جلسة فرعية لإحدى اللجان فى جامعة الدول العربية أن تيارا من تيارات السلفيين السنة لن يروق له هذا القرار لأنه صادر عن خلفية تخضع لفكر ورؤى الإخوان المسلمين. تجاوزنا عصر الخلاف الرئيس بين الإسلام والقومية الى خلافات فرعية يومية حول افكار تمثل جماعات وقوى «تحت طائفية» أو «تحت مذهبية»، وأكثرها باحث عن موقع ونفوذ سياسى ومصالح مادية فى عالم ومهنة لم ينتسب يوما لهما.
•••
تطوران فى العمل العربى المشترك يدفعان الى الظن بان النظام الإقليمى العربى يتدهور فى ظل هيمنة الدين كأداة سياسية وكنمط تحالفات ونمط امكانات. يعتقدون أن هذه الهيمنة أثرت بشكل مباشر فى تطور الامور بتونس وليبيا ومصر وأنها السبب الاصيل وراء الفوضى الناشبة فى هذه الدول. دليل هؤلاء الأكبر هو ما آل اليه الحال فى سوريا. لقد فشلت القوى العربية التى احتكرت توجيه التعامل العربى مع سوريا أو بمعنى آخر استولت عنوة أو بأساليب كانت هى نفسها فى مقدمة الرافضين لها فى مراحل سابقة . يحسبون الآن على الدول العربية التى تولت قيادة الحرب العربية ضد سوريا مسئولية الفشل فى قراءة الموقفين الروسى و الصينى وفى تقدير أدوار القوى الاقليمية مثل إيران وتركيا واسرائيل. لم تقنع بالرأى والوثائق التى أكدت أن اوباما لن يعيد أمريكا الى حرب عربية أو اسلامية. بسبب هذا الفشل تدفع الآن كل الاطراف العربية والاجنبية ثمنا باهظا. مرة أخرى يتوقعون فى الغرب تصعيدا رهيبا فى العمليات الإرهابية لا لسبب إلا لأن العامل الدينى يعاد استخدامه وتوظيفه فى ساحات السياسة الدولية، وفى هذه الحالة فى ساحة النظام الإقليمى العربى.
التطور الثانى الذى لا يبشر بخير هو المحاولة الراهنة التى تجرى فى ظل حقبة جديدة فى قيادة النظام العربى لوضع امكانات ومؤسسات النظام فى خدمة مساومات تقودها الولايات المتحدة لخدمة مصالح إسرائيل وأمنها فى المنطقة بانتهاز فرصة انشغال معظم دول النظام العربى فى أزمات اقتصادية ومالية وسياسية بل وفى ظل غياب فعلى لقوى مهمة .
•••
أدعو قادة الدول الأعضاء فى مجلس التعاون الخليجى، المجلس الذى يتولى بحكم الأمر الواقع قيادة النظام العربى على امتداد ثلاثة عقود، أن يتأملوا فى حال الأمة ووضعها الراهن ، وأن يتحاوروا فيما بينهم حول أنسب السبل لمنع انهيار النظام العربى ، وأن يتوحدوا فى الموقف السياسى ولا يتركوا لطرف أو آخر من بينهم حرية تكسير كل الخزف بعد أن انكسر أكثره . أدعوهم ولا أدعو غيرهم لأنهم ، أى قادة الخليج ، بسبب طول مدة هيمنتهم الفعلية على معظم مسارات الأمة العربية وبسبب تصدرهم مواقع القيادة ، دينيا وسياسيا وماليا، يتحملون أمام الرأى العام العربى والمجتمع الدولى مسئولية بعض ما يحدث الآن ومسئولية الكثير مما سوف يحدث فى الأيام والشهور القادمة.