أشرت بعمود الأمس إلى المغرقين فى نقاشات حسمت أو ينبغى حسمها سريعا حول الدين والسياسة، حول الشريعة والمجتمع، حول الحرية والصالح العام وطالبتهم بالكف عن إغراقهم وإعطاء الأولوية لقضايا الوطن الحقيقية المرتبطة فى المرحلة الراهنة ببناء الديمقراطية ودولة ومجتمع العدالة الاجتماعية. واليوم أتابع بدعوة ذات الطائفة، طائفة المغرقين من أتباع التيارات الدينية، للكف عن حروب المفاهيم والتعريفات التى يشعلونها بهدف إخافة الرأى العام من أفكار واجتهادات التيارات المدنية، ليبرالية كانت أو يسارية.
فما إن يشار فى نقاش عام إلى مفهوم الدولة المدنية حتى يهب المغرقون لمرادفة المدنية برفض الدين وتعريفها من ثم فى الحالة المصرية على أنها دولة الكفر والإلحاد. وما إن يحاجج المدافعون عن المدنية بأنها تعنى دولة مواطنة الحقوق المتساوية والتشريعات والقوانين والسياسات الحيادية التى لا تميز بين المواطنين، حتى تأتى هبة جديدة تنتقد مجرد الالتزام بمرجعية المواطنة «الوضعية» واستبدال المرجعية الدينية بها، علما بأن العلاقة الحقيقية بين المرجعيتين هى علاقة تكامل لا استبدال.
وينطبق ذات الامر على مفهوم الحرية. فما إن تعرفه أحزاب اليسار بحرية الفرد فى الاختيار مع ضمان كافة حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أو يعرفه الليبراليون بالحرية الفردية المنضبطة بالصالح العام بما يحويه الأخير من عادات وتقاليد ومرجعية دينية وقناعات الأغلبية، حتى يصرخ المغرقون لدفع المفهوم باتجاه تعريفه كمرادف لحرية منفلتة من كل قيد دينى أو مجتمعى.
أما الليبرالية، وبعد أن نجحنا فى النقاش العام المصرى فى التمييز بينها وبين مفهوم العلمانية، فتدور حول تعريفاتها حروب لفظية بالفعل. نعرف الليبرالية بالرجوع إلى مبادئها الرئيسية الحرية وتكافؤ الفرص وسيادة القانون ونجلى مسألة تعارضها المتوهم مع الدين طالما نظمت العلاقة بينه وبين السياسة والمجتمع، فتثور ثائرة المغرقين ومن رغب فى مجاراتهم وممالأتهم متحدثين فى مسعى لإضعاف غير نزيه للفكرة الليبرالية تارة عن ليبرالية علمانية وتارة عن ليبرالية ملحدة لا تطبيقات واقعية لهما.
العلمانية هى فصل الدين عن السياسة (وبداخل الأخيرة الدستور والتشريعات والقوانين والدولة وسلطاتها الثلاثة ومؤسساتها وممارسى السياسة من أحزاب وحركات) وفى بعض الأحيان فصل للدين عن السياسة والمجتمع (بحظر حضور الرموز الدينية فى المساحات العامة كالمدارس والجامعات وبإلغاء وجود مؤسسات دينية رسمية). أما الليبرالية، وكما يدلل العدد الأكبر من تطبيقاتها فى الشمال والجنوب، فتنظم العلاقة بين الدين والسياسة تحقيقا للتسامح وضمانا لمواطنة الحقوق المتساوية ولا تعارض وجود دستور أو تشريعات تستلهم المرجعية الدينية شريطة الالتزام بالمواطنة وعدم التمييز.
الاجتهاد المطلوب إذا، أؤكد مجددا، هو فى القضايا الشائكة المرتبطة على سبيل المثال ببناء الديمقراطية فى مصر وما يتطلبه من تغيير جذرى فى بنية الدولة المصرية شديدة المركزية والقائمة ولعقود طويلة على مبدأ التعيين وليس الانتخاب. وكذلك فى القضايا المتعلقة ببناء مجتمع العدالة الاجتماعية إن فى ظل التزام الليبراليين باقتصاد السوق أو فى ظل دعوة اليسار لإحياء الملكية العامة وإعادة النظر فى حدود مبدأ حرية النشاط الاقتصادى. حول هذه القضايا ينبغى أن تعقد المناظرات بين الأحزاب والقوى السياسية، والتميز سيكون لأصحاب البرامج الأوضح والأكثر موضوعية.