نحو تجمع للأمن الإقليمي.. السبيل إلى استعادة فلسطين وإيقاف الانهيار السورى وإنهاء حرب الاستنزاف الجديدة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 12:44 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو تجمع للأمن الإقليمي.. السبيل إلى استعادة فلسطين وإيقاف الانهيار السورى وإنهاء حرب الاستنزاف الجديدة

نشر فى : الجمعة 20 ديسمبر 2024 - 7:20 م | آخر تحديث : الجمعة 20 ديسمبر 2024 - 7:20 م

السؤال الجوهرى المطروح اليوم على شعوب الشرق الأوسط، وفى سياقات حرب الاستنزاف الجديدة التى اشتعلت بعد انفجار أكتوبر ٢٠٢٣ وبفعل التغول العسكرى الإسرائيلى، هو عن ماهية السبل الممكنة والأدوات المتاحة لإنهاء الحرب والتأسيس لنظام للأمن الإقليمى يساعد على خفض مناسيب التوتر والصراع ويفتح مسارات للتسويات السلمية والاستقرار.

وإذا كان التاريخ المعاصر للشرق الأوسط يدلل بجلاء على صعوبة نشوء وبقاء ترتيبات جماعية للأمن فى ظل تناقضات أساسية بين دوله النافذة ودون التوافق بين القوى الكبرى، فإن الشاهد اليوم أن القوى الكبرى تراوح فى مقاربتها للشرق الأوسط بين أفعال جزئية تستهدف إطفاءات مؤقتة للحرائق المشتعلة وبين مساعٍ للحفاظ على مصالحها الحيوية (الولايات المتحدة والصين) أو ما تبقى منها (روسيا والاتحاد الأوروبى) بعيدة عن التهديد. والشاهد أيضا أن القوى الكبرى، منفردة أو مجتمعة، لا تملك لا رؤية حقيقية ولا سياسات ذات مديات زمنية متنوعة لإخراج الشرق الأوسط من حربه الراهنة وأنها، وعلى اختلاف توجهاتها، تبدو إما عازفة أو عاجزة عن الاضطلاع بالمهمة.

يعنى ذلك أن مهمة إنهاء حرب الاستنزاف الشرق أوسطية واستعادة شىء من الاستقرار باتت متروكة للفاعلين الإقليميين الكبار إن هم رفضوا استمرار الأوضاع الراهنة ورغبوا فى تغييرها. وقناعتى أن فى حسابات المكاسب والخسائر وتفاصيل الفرص والأخطار بها ما قد يكفى لتشجيع نخب ومؤسسات الحكم فى الشرق الأوسط على التفكير الجاد فى فرص ترتيبات أمنية جماعية.

•  •  •

إسرائيل، وهى إلى اليوم الرابح الاستراتيجى من الانفجار وحرائقه المشتعلة بإضعافها لحماس وحزب الله ولإيران وحلفائها، تدرك حكومتها كونها أضحت أسيرة لمواصلة ضرباتها العسكرية لكيلا يعود «محور المقاومة» إلى إطلاق الصواريخ والمسيرات، وتدرك أيضا أن إعادة احتلال غزة أو سيناريوهات التهجير القسرى أو مواصلة الاستيطان الإجرامى فى الضفة الغربية أو البقاء فى الأراضى اللبنانية والعدوانية المتكررة تجاه سوريا ليست ممارسات تأتى بأمن واستقرار دائمين أو تشجع على التطبيع بينها وبين جوارها. بل إن حكومة اليمين المتطرف والدينى التى يقودها بنيامين نتنياهو، مهما روجت لخرائطها الكارثية للخير والشر ولاستراتيجية ضغط وتعقب وعقاب لإيران وحلفائها، تعلم أن الفاعلين الآخرين فى الشرق الأوسط، بما فيهم تركيا السعيدة اليوم بإبعاد النفوذ الإيرانى عن سوريا، لا يريدون لا إلغاء إيران ولا إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية الحاكم فيها.

إسرائيل، إذا لم ترد مواصلة حروبها إلى ما لا نهاية ولم تسيطر على عقلها السياسى أوهام التغيير العنيف للحكومات المناوئة لها وجنون احتلال المزيد من الأراضى السورية وإلغاء حق تقرير المصير الفلسطينى وحل الدولتين، تحتاج إلى توافقات إقليمية تؤسس للتسويات السلمية وتضمن الأمن الجماعى وتعين حدود خرائط النفوذ وتقاطعاتها.

•  •  •

أما إيران، وهى إلى اليوم الخاسر الاستراتيجى من انفجار أكتوبر ٢٠٢٣، فتدرك أن تراجعها الراهن لا يكفى لتغيير حقائقه وتداعياته لا محاولات لإعادة بناء قوة حلفائها فى غزة ولبنان وتجميع أوراق نظام بشار الأسد فى سوريا وتوظيف ميليشيات العراق واليمن خارج حدود الدولتين لمناوءة العدو الإسرائيلى فى جغرافية نفوذه الجديدة، ولا تورطَ عسكريا مباشرا لحرسها الثورى وأسلحتها فى حرب الاستنزاف، وهى حتما ستقوم بالمحاولات تلك ولن تتورع عن ذاك التورط.

تدرك قيادة الجمهورية الإسلامية أيضا، وكما تدلل تصريحات علنية للمرشد خامنئى ولرسميين آخرين، أن المستفيدين من انكماش خرائط نفوذها الإقليمى كثر ويشملون العاصمتين تل أبيب وأنقرة وأن شعبية «محور المقاومة» وخطابه السياسى انهارت على وقع الحرب والدماء والدمار وتغول الآلة العسكرية الإسرائيلية. إيران، وهى بهذا المعنى تقابل كخاسر إسرائيل كرابح، تحتاج إلى توافقات إقليمية لضمان أمنها القومى وصون مصالحها الحيوية محددة كبقاء نظام الجمهورية الإسلامية وصون المشروع النووى وحماية وجود (مجرد وجود) حلفائها ولكى توقف التداعيات الكارثية لحرب الاستنزاف عليها.

•  •  •

فيما خص تركيا، وهى تأرجحت طويلا بين العثمانية والإسلاموية فى سياستها فى الشرق الأوسط بين ٢٠١١ و٢٠٢٠ وتورطت فى صراعات عديدة ثم عمدت بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٣ إلى التخارج منها والتطبيع مع جوارها العربى والتهدئة مع مصر، فإنها تعد اليوم من بين الفاعلين الرابحين بالجائزة السورية وبتراجعات إيران فى المشرق العربى وبنجاحها فى التنسيق الأمنى والدبلوماسى مع الولايات المتحدة وبمزجها بين المعارضة العلنية والحادة لحروب إسرائيل وبين التنسيق العسكرى والعملياتى الفعلى معها فى سوريا وعلى حساب السيادة السورية.

غير أن أردوغان ورفاقه فى حكومة أنقرة يدركون أن حفاظهم على حظوظ الميليشيات المدعومة منهم فى حكم دمشق وفى الضغط على الفصائل الكردية التى يصنفونها إرهابية وفى تحقيق استقرار يسمح بعودة ملايين اللاجئات واللاجئين السوريين من الأراضى التركية إلى بلادهم ويطلق عمليات إعادة البناء والإعمار، يدركون ارتباطه الوثيق بالعمل الأمنى والسياسى المشترك مع اللاعبين الإقليميين الكبار وحتمية توقفهم عن الامتهان الحالى للسيادة السورية الذى يمارسونه.

تحتاج أنقرة إلى حوار جاد حول سوريا والمشرق العربى مع إيران التى لم ولن تغادرهما بالكامل، ومع إسرائيل التى تتحرك عسكريا بحرية ولا أدوات أخرى لها، ومع السعودية وقطر اللتين تملكان القدرات المالية والسياسية للتأثير فى الداخل السورى وفى عموم أحوال المشرق، ومع مصر التى تقلقها للغاية حرب الاستنزاف الإقليمية ولها العديد من المصالح الحيوية فى غزة وفيما خص القضية الفلسطينية وفرص تسويتها.

ينطبق ذات الاحتياج للفاعلين الإقليميين الآخرين ولترتيبات أمن جماعى تصاغ بينهم وتشرع أبواب إنهاء الحروب والتسوية السلمية للصراعات على السياسات المصرية والسعودية والإماراتية.

فالحدود المصرية ملاصقة لأحزمة أزمات خطيرة فى كل الاتجاهات، إلى الغرب والجنوب والشرق، وتدفع البلاد ثمنا باهظا لحرب الاستنزاف الجديدة فى الشرق الأوسط يتمثل فى أخطار الأمن القومى الواردة من غزة والمترتبة على التغول الإسرائيلى وامتهان السيادة السورية وسباق التسلح الكارثى فى الإقليم والناجمة أيضا عن تراجع عائدات قناة السويس وإشكاليات إعاشة ودمج الأشخاص اللاجئين.

منذ انفجار أكتوبر ٢٠٢٣ والقاهرة تعمل على إطفاء الحرائق المشتعلة بالتعاون مع العواصم النافذة كأنقرة والرياض وأبو ظبى وبشىء من الانفتاح الدبلوماسى على طهران وبكثير من الصبر الاستراتيجى على تل أبيب التى لم تتورع عن إدخال علاقات العاصمتين الثنائية فى توترات حادة (إن بسبب التعنت فى إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، أو بسبب السيطرة على معبر رفح فى الجهة الفلسطينية، أو عندما توغلت عسكريا فى ممر فيلادلفى منزوع السلاح).

لمصر، ووساطتها ضرورية لإنهاء الحرب فى غزة والبحث فى ترتيبات اليوم التالى ولإعادة القضية الفلسطينية وحل الدولتين إلى الواجهة، مصلحة حيوية فى عمل جماعى بين الفاعلين الإقليميين يسفر عن ترتيبات أمنية فى المشرق بكل ساحاته، فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، وفيما وراءه أيضا.

•  •  •

لا تختلف رؤية السعودية عن محددات الرؤية المصرية، وإن اختلفت الدوافع والمصالح. فالمملكة معنية بمواصلة التركيز على برامج التحديث الداخلية والحيلولة دون استثمار مواردها المالية والسياسية والدبلوماسية بالقرب من توترات وصراعات ليس لها أن تسوى سلميا دون إنهاء لحرب الاستنزاف الجديدة والتوافق حول ترتيبات أمن جماعى فعالة، كما أنها تريد الحفاظ على حدودها آمنة بالتزام التهدئة الإقليمية مع إيران فى جنوب الجزيرة العربية واستعادة الاستقرار فى المشرق العربى الذى تؤثر أوضاعه عليها (خاصة الأوضاع العراقية والسورية) ومتابعة الحوار الاستراتيجى مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن قضايا ثنائية عديدة وفيما خص التطبيع فى الشرق الأوسط.

يصعب تصور أن الرياض ستقبل على حوار مع واشنطن يربط بين ضمانات أمنية وتكنولوجيا نووية سلمية تقدم لها من القوة الكبرى وبين التطبيع مع إسرائيل والأخيرة تلغى الحق الفلسطينى فى تقرير المصير وحل الدولتين وتواصل حروبها، وبالمثل يصعب أيضا تصور أن الموارد السعودية ستظل بعيدة عن التورط فى صراعات المشرق العربى إن استمرت المواجهات المباشرة وبالوكالة بين إسرائيل وإيران وتركيا.

•  •  •

إذا كان الاحتياج للفاعلين الإقليميين الآخرين يجمع بين الرابحين والخاسرين والمتوجسين من حرب الاستنزاف الشرق أوسطية وإذا كانت مساعى إنهاء الحرب، وليس مجرد وقف إطلاق النار هنا والهدن المؤقتة هناك، واستعادة شىء من الاستقرار، تتطلب التوافق حول ترتيبات أمن لا تعارضها اليوم العواصم النافذة، فإن العقبة الكبرى أمام عمل إقليمى جماعى تتمثل فيما يرتبه تورط البعض فى التوظيف الممنهج للأداة العسكرية وفى دعم الميليشيات المسلحة وفى التدخل فى شئون الغير دون احترام لمبدأ السيادة الوطنية من غياب الثقة المتبادلة ومن تهاوى وزن مبدأ الأرض مقابل السلام وعقيدة التسوية السلمية للتوترات والصراعات. باستثناء مصر والسعودية، الدولتان الكبيرتان اللتان لا تورطَ عسكريا مباشرا أو غير مباشر لهما فى الحروب الدائرة اليوم، تستخدم إسرائيل وإيران وبدرجات أقل تركيا جيوشها وسلاحها فى ساحات إقليمية مختلفة.

هذه العقبة الكبرى حلها الوحيد هو استبدال الأمن الجماعى بالأداة العسكرية، وبناء التوافق والتهدئة والتسويات السلمية بالتورط العسكرى المباشر وبالوكالة فيما وراء حدود الدولة الوطنية المعنية. وللاقتراب من الحل هذا، يتعين على مصر بتاريخها الدبلوماسى الطويل ومواردها المؤسسية ووزنها الشعبى فى الشرق الأوسط وعلى السعودية بقوتها السياسية والرمزية القادرة على تجميع الفاعلين الكبار وقدراتها المالية، إطلاق مبادرة لتكوين تجمع للأمن الإقليمى على غرار منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا ودعوة جميع دول الشرق الأوسط والمنظمات الإقليمية (كجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجى) إلى الانضمام إليها نظير الالتزام بمبدأ عدم التدخل فى شئون الغير وعقيدة التسوية السلمية للتوترات والصراعات، ونظير الامتناع عن توظيف الأداة العسكرية وإنهاء التورط فى الحروب، ونظير التوقف عن دعم الميليشيات المسلحة والاعتماد على الحوار والتفاوض وبناء التوافق لوقف الحروب الأهلية، ونظير العمل الجاد على تخليص الشرق الأوسط من الاحتلال والاستيطان والحصار وتمكين الشعوب الطالبة لتقرير المصير من ممارسته واقعيا، واستعادة الدول الوطنية من غياهب الانهيار والتفكك التى صارت بها فى عديد الساحات فى الشرق الأوسط.

وليكن الإسهام فى إعادة القضية الفلسطينية كقضية تقرير مصير وحق فى الدولة المستقلة، والإسهام فى صناعة المستقبل السورى بعيدا عن كارثة الجماعات المسلحة والتغول العسكرى لأطراف خارجية، هما اختبار البدايات لتجمع الأمن الإقليمى هذا. وليكن النظر فى انضمام إسرائيل وإيران وتركيا لمثل هذا التجمع مرهونا بتغير سياساتهم فعلا وليس قولا.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات