تبهرنى القاهرة كلما عدت إليها بانفتاحها على المجموعات السكانية المتنوعة التى لجأت إليها هربا من ويلات الحروب والعنف وانعدام الأمن الإنسانى فى الجوار المباشر والجوار الإقليمى الواسع.
يدور فى مصر اليوم نقاش سياسى هام حول تقنين أوضاع اللاجئين، والشروط المرتبطة بتمتعهم بحق العمل وحق الحصول على الخدمات الاجتماعية كالسكن والتعليم والرعاية الصحية ورعاية كبار السن، ودور الكيانات الدولية والإقليمية المعنية باللاجئين فى الشرق الأوسط فيما خص تقديم الدعم المالى للموازنة المصرية العامة التى تتحمل تكاليف الإعاشة والإعانة.
مثل هذا النقاش تديره كافة المجتمعات التى تواجه ظاهرة ازدياد أعداد اللاجئين شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وتشارك به مؤسساتها الرسمية وقواها السياسية ومنظماتها غير الحكومية بحثا عن بناء توافق وطنى واسع يضمن لمجموعات اللاجئين حياة آمنة وكريمة، ويضع إطارا قانونيا لوجودهم ولحقوقهم وللخدمات التى يحصلون عليها تقبله الأغلبية المجتمعية ويتضمن اشتراطات تتعلق بواجبات اللاجئين (مالية وضريبية وغيرهما) إزاء السلطات العامة والتسهيلات الممنوحة لهم وفقا لأحوالهم المعيشية.
مثل هذا النقاش يعبر عن ضرورة سياسية لا يمكن تجاهلها هدفها هو طمأنة الأغلبيات المجتمعية إلى أن وجود مجموعات اللاجئين الوافدة من الخارج، وهى عادة ما تحمل معها طرقا للحياة والعمل وصنوفا من العادات والتقاليد تتمايز عن «أهل البلد» وتتفاوت إمكانيات أفرادها التعليمية والمهنية والاقتصادية وقطعا سينافسون فى سوق التعليم والعمل والقطاع الخاص على الفرص المتاحة، الطمأنة إلى أن وجود اللاجئين ينتظم فى إطار قانونى شرعى يحمى الحقوق ويلزم بالواجبات ويحول دون انتشار النزعات الشعبوية والعنصرية المقيتة الرافضة لوجود غير أهل البلد من «الأجانب» والمتجهة ظلما إلى اتهامهم جماعيا بالمسئولية عن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية الحاضرة فى كل المجتمعات، والتى لا يُسأل عنها أبدا لاجئون وفدوا بحثا عن النجاة.
• • •
بينما يدور هذا النقاش فى أروقة الحياة السياسية والحياة العامة فى مصر، تتحرك الوقائع اليومية للحياة المجتمعية بإيقاع أسرع بكثير لتدلل على انفتاح «أهل البلد» على اللاجئين الذين قدموا من السودان فى جوارنا المباشر، ومن سوريا واليمن فى جوارنا الإقليمى، وبأعداد أقل من مناطق أخرى، ولتدلل أيضا على ابتعادنا الجماعى عن إلقاء اللوم عليهم فيما خص الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التى نواجهها اليوم.
فى الانفتاح والابتعاد هذين إشارة بينة على تحضرنا كشعب وعلى رفض أغلبية المصريات والمصريين للنزعات العنصرية والمعادية للاجئين واللاجئات التى حاولت فئة قليلة الترويج لها فى الآونة الأخيرة (إن بحملات على شبكات التواصل الاجتماعى لمقاطعة البضائع والمحال السورية أو الامتناع عن تأجير الشقق السكنية والأماكن التجارية للسودانيين واليمنيين وغيرهم). طوال تاريخها وبحكم جغرافيتها الواقعة على خطوط التقاء كثيرة وبفعل الأوضاع السياسية غير المستقرة فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، اعتادت مصر قدوم اللاجئين واللاجئات إليها وبإعداد متفاوتة وأبدا لم تضق بهم على الرغم من الأمد الطويل للتعثر الاقتصادى والاجتماعى المحيط بها إن بفعل الحروب العربية ــ الإسرائيلية أو بسبب إخفاقات التجارب التنموية.
• • •
وصلت القاهرة قادما من واشنطن قبل أيام قليلة. وأثناء انتظار حقائبى فى صالة المطار وكنت أتجاذب أطراف الحديث مع مسافرين آخرين، اقترب منا شاب عرف نفسه كيمنى وصل للتو مع أسرته من صنعاء ويريد معرفة "أين يقع حى الدقي" فى العاصمة المصرية و"أين يمكنه الإقامة به ليوم أو يومين" حتى يتسنى له استئجار شقة مناسبة. دون مبالغة، تطوع كل من سمع الشاب بتقديم المساعدة بالمعلومات والمقترحات وأرقام الهواتف المفيدة. بل عرض عليه أحدهم وهو من سكان الدقى أن يأتى هو وأسرته معه فى السيارة التى ستنقله من المطار إلى الحى ووعده بمساعدته فى العثور على فندق مناسب (سعرا ووضعا).
تركت المطار إلى حيث مكان إقامتى فى القاهرة، شقة والدتى ووالدى رحمها الله فى حى المهندسين. وما أن وصلت إلى المكان بحقائبى ووقفت قليلا أبحث عن المفتاح حتى سمعت صوتا صغيرا يسألنى بلهجة سودانية «من أنت؟»، فالتفتُ لأجد طفلا فى بدايات عقده الثانى ينظر إلى بعينين مبتسمتين ومنتظرتين للإجابة. قلت له إننى من «أهل البيت» وإن غبت عنه لظروف العمل وأن الشقة التى أقف أمامها تعود إلى والديى، ثم سألته عن اسمه شاكرا له وعيه وحرصه على أمن البناية التى يسكن بها. قال عبد الرحمن مرحبا «حمد لله على السلامة» وأخبرنى أنه وأسرته يسكنان فى الشقة المقابلة منذ سبتمبر ٢٠٢٤ ويذهب هو وإخوته إلى مدرسة قريبة.
بعد فترة قصيرة أمضيتها فى الشقة، خرجت منها للتجول فى الشوارع القريبة منها (لمن يعرف حى المهندسين فى منطقته القريبة من نادى الصيد، شوارع الكوثر والمدينة المنورة وجدة ومكة والحسن والحسين) كعادتى دوما بعد رحلة طيران طويلة تلحق بالجسم الكثير من الأضرار التى لا دواء سريعا لها سوى الحركة الهادئة. لمحت أثناء المشى كيف صار العدد الأكبر من المحال التجارية إما يخاطب بمعروضاته مجموعات اللاجئين السودانيين واليمنيين الذين ازدادت أعدادهم بوضوح (محال للوجبات السودانية واليمنية ولتجهيزات «المنزل السودانى» و«الستائر اليمنية» وغيرها) أو يعبر عن التوسع المطرد لحضور أصحاب المطاعم السوريين فى مختلف أحياء القاهرة قديمة وحديثة وعصرية (أما أسماء المطاعم السورية التى شاهدتها فى جولة على القدمين لم تستغرق سوى نصف ساعة فكانت «مال الشام» و«المطبخ السورى» و«أبو أنس السورى»). واللطيف فى الأمر هو أن هذه المحال والمطاعم لم يبدُ عليها أنها تجتذب مجموعات اللاجئين القادمين من السودان واليمن وسوريا، بل كان من بين مرتاديها عدد معتبر من المصريات والمصريين الذين تحول أمر وجود هذه الأماكن بالنسبة إليهم إلى ظاهرة مألوفة يقبلون عليها دون تأفف أو امتعاض.