تختلف المجتمعات فى تقديرها لأهمية العلوم الإنسانية، وفى العناية التى توليها للبحث فيها؛ إذ تراها بعض المجتمعات حاسمة فى تحقيق أهدافها، وطموحاتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها. وتقوم فى سبيل الإفادة من هذه العلوم بدعم الباحثين فيها، وإتاحة ظروف عمل ملائمة لهم، وتوفير الحريات الأكاديمية الضرورية لعملهم. وفى المقابل، تنظر مجتمعات أخرى إلى هذه العلوم نظرة تغلب عليها اللامبالاة، والتجاهل. وتدركها بوصفها معارف ضعيفة الجدوى، والعائد، ومحدودة التأثير فى مسار المجتمعات والدول.
للأسف الشديد، تسيطر النظرة الأخيرة على معظم بلدان العالم العربى، وتؤثر فى حجم الدعم الموجه للعلوم الإنسانية، والجهود المبذولة للإفادة منها. وهدف المقال نقد هذه النظرة من خلال تسليط الضوء على إسهامين معرفيين، قدمهما عالمان بارزان، هما برنارد لويس وجمال حمدان، يجمعهما الاهتمام بتاريخ العالم العربى والإسلامى، وجغرافيته، وحرصهما على الإفادة من المعرفة العلمية فى خدمة مجتمعاتهما. ويفرق بينهما تناقض أهدافهما؛ إذ قدم لويس دراسات سياسات، وأوراق عمل، وبحوث استكشافية غرضها تسليط الضوء على نقاط الهشاشة والضعف فى العالم العربى، وتعميقها، وخلقها أحيانا؛ بهدف إحكام السيطرة الغربية عليه. أما العلامة جمال حمدان فقد أنجز مشروعا معرفيا هائلا، يعمق فهمنا لمصادر قوة العالم العربى، ويوضح سبل توظيفها فى دعم استقلاله، وحريته؛ بهدف خلق مستقبل أفضل. لكن الفرق الأهم هو طبيعة المجتمع الذى أنتجا فيه أفكارهما؛ وموقفه من المعرفة، ومن العلماء. وسنرى كيف أثر ذلك فى مصير المشروعين.
***
• برنارد لويس: المعرفة فى خدمة الهيمنة والاستغلال
برنارد لويس (1916 ــ 2018) مستشرق يهودى بريطانى ــ أمريكى، اهتم بدراسة المجتمعات العربية والإسلامية، سواء التاريخية أو المعاصرة. وركز على دراسة موضوعات مثل الفرق الإسلامية، والعبودية، والهويات الدينية والعرقية فى العالم العربى، وغيرها. وهى موضوعات تبدو وثيقة الصلة بالأزمات التى عاشها، ويعيشها، العالم العربى خلال القرن الماضى. عمل لويس فى جامعة لندن، وجامعة برنستون، وغيرها، وقد درس المفكر الإنسانى إدوارد سعيد الأعمال التى قدمها لويس، وتلامذته، وبرهن بأدلة قاطعة على أنها تقدم صورا نمطية، مشوهة للعرب والمسلمين.
يكمن جزء من خطورة أعمال لويس فى تشكيل آراء وتصورات الغرب حول القضايا العربية والإسلامية، بشكل يفتقد إلى النزاهة والموضوعية إلى حد التحيز والعنصرية. لكن خطورته الأساسية تأتى من تأثيره الهائل على مراكز صنع القرار. فقد احتضنت المؤسسات السياسية البريطانية والأمريكية كتابات لويس، واستفادتْ منها، وجعلتْ من المعرفة التى يقدمها هو وأمثاله من الباحثين المتخصصين فى دراسات الشرق الأوسط الأساس الذى تنطلق منه. وفى المقابل، أعطت لهؤلاء الباحثين مكانة مرموقة، وهيأت لهم أجواء بحثية ملائمة، مدعمة بكل المحفزات. ويكفى فقط النظر فى عقد جامعة برنستون مع لويس عام 1974، فقد قصرتْ أعباءه على تدريس مقرر واحد سنويا، ووفرتْ له كل الإمكانيات التى يحتاج إليها لإنجاز بحوثه. فقدم خلال تلك الفترة أهم أعماله قاطبة، وأكثرها تأثيرا. والنتيجة بالطبع هائلة، ولو أخذنا العقدين الأخيرين فقط مثالا على هذا التأثير، سنجد أن سياسة خلق العداء بين السنة والشيعة، وغزو العراق، وخطط تفتيت الدول الكبرى فى المنطقة، كلها كانت نتاج مراكز أبحاث، وجامعات، ومؤسسات أبحاث، تأثرت على نحو مباشر أو غير مباشر بأفكار برنارد لويس وجامعيين مشابهين.
*****
• جمال حمدان: المعرفة فى خدمة الاستقلال والتحرر
فى مقابل نموذج برنارد لويس، الذى يجسد تأثير الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية فى رسم السياسات والاستراتيجيات، وأثر تقدير قيمة المعرفة، والحرص على توفير بيئة مناسبة لإنتاجها، لدينا فى العالم العربى نماذج معكوسة لا حصر لها. سأتحدث فحسب عن نموذج واحد هو نموذج العالم المصرى الدكتور جمال حمدان (1928ــ 1993). قدم حمدان كتابات أصيلة حول جغرافية العالم العربى والإسلامى وتاريخه، وراهنه، منطلقا من قناعة أساسية؛ هى أن الإفادة من قوى المجتمع، وإمكانياته، ومقدراته لا يمكن أن تتحقق دون معرفة علمية بهذه القوى والإمكانيات والمقدرات. وعكف عقودا متواصلة على تقديم أفكار ومقترحات شديدة العمق والبصيرة بشأن توظيف هذه الإمكانيات فى تغيير الواقع العربى، نحو مزيد من الاستقلال، والتقدم. فماذا كان مصير كل هذا؟
لقد ظلتْ أكثر أفكار حمدان حبيسة كتبه، فلم يُستفد من أفكاره المهمة بشأن العلاقات العربية ــ العربية، أو تعمير سيناء، أو الثراء الثقافى العربى الناتج عن التنوع والتعدد، أو الصراع مع قوى الاستعمار الجديد، وغيرها كثير. وفى ظل سياسة إقصاء أهل الكفاءة، حاربه أنصاف المتعلمين من أهل الثقة. وحين رأى كيف يُمسك هؤلاء بمقاليد المراكز المهمة داخل الجامعة وخارجها، قرر أن يعتزل الجامعة كلها فى منتصف ستينيات القرن الماضى.
لكى نقدر أثر تجاهل قيمة العلوم الإنسانية، يمكن أن نتخيل الوضع بشكل معكوس: تُرى كيف كانت بريطانيا أو أمريكا لتتعامل مع حمدان، لو أنه كان إنجليزيا أو أمريكيا؟ ما التأثير الذى كان يمكن أن يُحدثه فى سياساتهم؟ ما الثغرات التى كان من الممكن أن يتلافوها بفضله؟ ما عناصر القوة التى كان لهم أن يحصدوها بعلمه؟ وعلى الجانب الآخر: ترى ما مصير برنارد لويس لو أنه عمل فى جامعة عربية، محروما فيها من الحرية الأكاديمية، ومن الإمكانيات البحثية الأساسية؟ هل كان سيتاح له أن يكتب ما كتبْ؟ أو أن يترك الأثر الذى ترك؟ هل كان سيتاح له أن يُشكل كتيبة من الباحثين المستشرقين المنتمين إلى المحافظين الجدد، تُعدُ طليعة حرب عنصرية شرسة غير مُعلنة تُشن على العالم العربى الآن؟ أترك للقارئ الكريم الإجابة عن الأسئلة السابقة. وأكتفى بتأكيد أن مستقبل الأمم الأمم لا تحسمه حالة الطائرات، والصواريخ، والدبابات، بل تحسمه، قبل أى شىء آخر، حالة المدارس، والمعاهد، والجامعات.