مدهش أمر ذلك التحول النوعى المباغت فى مواقف حركة النهضة التونسية، إخوانية الهوى والهوية، حيال سلسلة القرارات التى يتخذها الرئيس قيس سعيد منذ الخامس والعشرين من الشهر المنقضى. فبعدما انبرت فى اتهامه بـ«الانقلاب على الديمقراطية»، مستنفرة أنصارها لمناهضة تدابيره الاستثنائية، التى جاءت تلبية لنداء الجماهير، وتفعيلا لحالة «الخطر الداهم»، بموجب الفصل الثمانين من الدستور، سرعان ما بدلت الحركة موقفها، لتتعهد بالتزام التهدئة، والارتكان للحوار، فيما اعتبر زعيمها راشد الغنوشى، الإجرءات الرئاسية منطلقا لتحول ديمقراطى ناجز.
بغير عناء، يستطيع المتتبع لنتائج الاستحقاقات التشريعية التى شهدتها تونس منذ اندلاع حراكها الجماهيرى قبل عقدين مضيا، أن يلمس انكماشا تصاعديا فى حجم التأييد الشعبى والدعم الانتخابى لحركة النهضة. فبعد اغتنامها مليونا ونصف المليون صوت، إبان انتخابات العام 2011، خولتها حصد 89 مقعدا من إجمالى مقاعد المجلس البالغة 217، بدأ معينها السياسى بالنضوب خلال الانتخابات التالية عام 2014، إذ لم تقتنص سوى قرابة 950 ألف صوت، قلصت تمثيلها البرلمانى إلى 69 مقعدا. ولما كانت أية حكومة تحتاج إلى 109 مقاعد لتأمين نسبة الواحد وخمسين بالمائة، اللازمة لنيل ثقة البرلمان، فقد اضطرت الحركة إلى تشكيل ائتلاف حكومى مع قوى سياسية أخرى لإدراك النصاب المطلوب. وهو ذات السيناريو الذى تكرر عقب الاستحقاق الثالث عام 2019، الذى انتزعت الحركة فيه فوزا بطعم الهزيمة، إذ تآكل نصيبها من الحضور البرلمانى إلى 53 مقعدا فقط. وعلى وقع تفاقم السخط الشعبى على أدائه، فُجع التنظيم الإخوانى بمسيرات الحسم المطالبة برحيله عن السلطة، ثم بالترحيب الشعبى بتدابير الإنقاذ الرئاسية.
ومثلما تراءى للجميع انحسار قدرة النهضة على الحشد الجماهيرى، بعدما منيت نداءاتها العبثية، لاستنفار المريدين من أجل التصدى لتلك التدابير، بالفشل الذريع، تبدت حالة الانكشاف السياسى التى ألمت بالحركة، مع تخلى حلفائها عنها تباعا. فبعدما أنهى إردوغان صمتا دام أسبوعا كاملا، بإدانته الخجولة للتحركات الرئاسة التونسية، كأننا به وقد رهن موقفه بردود الفعل الغربية، تلافيا للتورط فى تصريحات استعراضية أو سياسات عنترية، تفاقم خصوماته مع جيرانه، وتطيل الجفاء مع حلفائه الغربيين، أبدى رئيس الحكومة المعفى، هشام المشيشى، تعاونا مبهرا مع الإجراءات الرئاسية، فيما صحح حزبا «قلب تونس»، و«تحيا تونس»، شركاء النهضة فى الحكومة، موقفهما المتهور، فى بادئ الأمر، بإعلانهما لاحقا تفهمهما التام لتلك الإجراءات.
بموازاة فشلها المروع فى مواجهة جائحة كورونا، أفضى تردى الأداء الاقتصادى لحركة النهضة إلى اتساع رقعة مؤيدى القرارات الرئاسية. فخلال عشريتها السوداء، قفزت نسبة البطالة إلى 18%، ومعدل التضخم إلى5.7%، فيما انكمشت إيرادات السياحة بنسبة 80%، وبلغ معدل العجز المالى11.5%، بعدما انخفض متوسط النمو إلى1.5%، وهوت احتياطيات العملة الأجنبية إلى 6,7 مليار دولار. ورغم لجوئها إلى صندوق النقد الدولى عام 2016 للحصول على قرض بقيمة 2.88 مليار دولار، ثم حزمة مساعدات مالية أخرى هذا العام، لم تتورع المؤسسات الاقتصادية الدولية عن تخفيض التصنيف الائتمانى لتونس جراء عجزها عن سداد ديونها الخارجية، التى ناهزت 35.7 ملياردولار، وإخفاق حكومتها فى تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى. على أثر ذلك، طالب الاتحاد التونسى للشغل بمحاسبة حركة النهضة على زجها آلاف التونسيين للانضواء تحت لواء تنظيمات جهادية على شاكلة «داعش»، و«جبهة النصرة»، ودفعها آلافا آخرين للارتماء بمراكب الموت، هربا إلى أوربا، بجريرة الإحباط وانعدام الثقة فى المستقبل.
بُهتت حركة النهضة من المواقف الدولية حيال القرارات الرئاسية. فبينما حظيت بإجماع عربى غير مسبوق، دعا الاتحاد الأوروبى إلى إعادة تفعيل جميع المؤسسات الدستورية التونسية فى أقرب وقت، مع احترام الحقوق الأساسية، وتجنب جميع أشكال العنف. وبعدما ناشدت الرئيس التونسى الإبقاء على حوار مفتوح يشمل جميع اللاعبين السياسيّين، مع احترام المبادئ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، دحضت واشنطن ادعاءات حركة النهضة بأن التدابير الاستثنائية ستخلف عواقب وخيمة على ثقة المانحين الدوليين، معلنة دعم مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولى، لاقتراض أربعة مليارات دولار. ولعل فشل رهان الغنوشى على الخارج هو ما دفعه لابتزاز شركاء تونس الأوربيين، بقضية الهجرة غير النظامية، الذى تعول بروكسيل على تعاون تونسى بنَاء فى مكافحتها. فعلى الطريقة الإردوغانية، حذّر زعيم النهضة، من مغبة تدفق نصف مليون تونسى صوب السواحل الأوروبية، إثر تعاظم مخاطر عدم الاستقرار فى البلاد عقب الإجراءات الرئاسية. لكن تقويض الرئيس سعيد لمحاولات التوظيف السياسى لتلك القضية، بتجديده التزام بلاده معالجة شاملة وتشاركية لها، تتضمن تقويض شبكات الاتجار بالبشر، أجهض المخطط.
بعدما استعصى عليها اختراقها منذ العام 2011، أخفقت حركة النهضة فى استدراج المؤسسة العسكرية التونسية للأزمة الحالية. فاستنادا للمادة 18 من دستور2014، التى تنص على «التزام الجيش الوطنى الحياد التام، مع دعم السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون»، تجنب الجيش الانخراط فى السياسة، وانحاز للنأى بالنفس عن تجاذباتها ومناكفاتها، مكتفيا بالعمل على إرساء التوازنات ومؤازرة السلطة الشرعية، على نحو ما تجلى فى حياده المطلق أثناء الاستحقاقات الانتخابية التى شهدتها البلاد أعوام 2011 و2014و 2019.
وقد ظلت علاقة حركة النهضة ملتبسة بالجيش التونسى منذ العام 2011. فتارة تتهمه بالهيمنة على مقدرات الدولة، وتصفه بأنه «غير مضمون»، ثم تغازله بتحية عسكرية، وإطراء، لم يخل من دعوة للابتعاد عن المهاترات السياسية تارة أخرى، فيما لا تتورع عن استمالته لإجهاض القرارات الرئاسية الأخيرة، عبر وصفه بأنه «حامى الديمقراطية». فى المقابل، كان الرئيس سعيد، أكثر حصافة فى التعاطى مع المنظومة الأمنية، التى نجت من مساعى حركة النهضة لاختراق مؤسسات الدولة وأخونتها، عبر استراتيجية «التدافع الاجتماعى»، التى ابتدعها الغنوشى للاستحواذ على مفهوم المقدس الدينى. ففى مقاربة فريدة لهندسة العلاقات المدنية العسكرية، نجح سعيد منذ اعتلائه الرئاسة عام 2019، فى مد جسور الثقة مع قيادات المنظومة الأمنية، عبر تعزيز دورها الأمنى والاجتماعى، وإنعاش الدور التنموى للجيش. وتوخيا منه لقطع الطريق على الحيل والمؤامرات الإخوانية، بادر الرئيس بتنسيق خطواته الأخيرة مع القيادات العسكرية والأمنية، حتى اقتنعت بتأييدها، ومساندته فى مواجهة مناهضيه. وتفنيدا لاتهامات خصومه له بالاستقواء بالمنظومة الأمنية للانفراد بالسلطة، لم يعهد سعيد إلى عسكريين بأية مناصب قيادية، باستثناء تكليف الإدارة الصحية للجيش بالتصدى لجائحة كورونا.
رغم تكتمها على الانقسام الذى يضرب أطنابه فى جسدها الواهن منذ سنوات، انكشف المستور خلال العام الفائت مع صدور، «لائحة المائة قيادى» التى طالبت الغنوشى بالتنحى عن قيادة الحركة، وعدم الترشح لرئاستها مجددا. وجاءت القرارات الرئاسية الأخيرة لتعمق التصدعات داخل الحركة، إذ توالت استقالات كوادرها، وتنوعت انتقادات أتباعها لأدائها. وفى مؤشر على تنامى الفجوة الجيلية داخلها، دعا المجلس الوطنى لشباب الحركة، إلى الإطاحة بمن يوصفون فى تراتبيتها الحزبية بالصقور، وإفساح المجال لعناصر شبابية متصالحة مع الشعب، وفتح باب الحوار والشراكة مع الرئاسة والمجتمع المدنى، وإجراء مراجعات عميقة للسياسات والتوجهات. وفى عريضة بعنوان «تصحيح المسار»، دعت أكثر من 130 قيادة شبابية إلى ضرورة تحمل الحركة مسئولية تقصيرها، مع حل مكتبها التنفيذى المركزى، وإبعاد الغنوشى عن رئاستها إلى الأبد.
ما إن ضاقت عليها الأرض بما رحبت، إثر انحسار خياراتها، ونفاد رصيدها، حتى هُرعت حركة النهضة لممارسة التقية السياسية. حيث سحبت أنصارها من محيط البرلمان، وعدلت عن التمرد والاحتجاج على ما أسمته «الانقلاب على الثورة والدستور»، ثم أصدرت بيانا يدعو للحوار والتضامن وتجنب الاقتتال الداخلى، معربة عن استعدادها لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة حماية للمسار الديمقراطى. وفى البيان الختامى لاجتماع مجلس شورتها، وخلافا لديدن الإخوان، أبدت الحركة نيتها ممارسة نقد ذاتى معمق لسياساتها خلال المرحلة الماضية، وإجراء المراجعات الفكرية، توطئة لتطوير برامجها، وتحديث مرجعياتها، وإعادة النظر فى خياراتها وتموقعها، استجابة لرسائل الشارع التونسى.
وفى ارتداد مثير عن مواقفه السابقة، تبرأ الغنوشى من تصريحاته التحريضية فور إعلان القرارات الرئاسية، متضمنة دعوات للاحتجاج والعنف، كما تخلى عن تحذيراته للأوربيين من تداعيات اندلاع أعمال فوضى واضطرابات تنبعث منها قوافل المهاجرين واللاجئين غير النظاميين. وبعدما أقر بارتكاب أخطاء شتى خلال الأعوام الماضية، مؤكدا استعداده لتقديم تنازلات لحماية الديمقراطية، طالب الغنوشى بتحويل التحركات الرئاسية إلى فرصة للإصلاح، وخطوة على درب التحول الديمقراطى. وفى مسعى منه لاستجداء التواصل مع الرئيس سعيد، أعرب عن أسفه لعدم وجود حوار بينهما منذ الخامس والعشرين من يوليو الماضى.
سواء كانت المنحنيات المريبة فى مواقف حركة النهضة إزاء التدابير الاضطرارية للرئيس سعيد، ظرفية مرحلية، أو محض حيلة أو مناورة، أو تقية سياسية، للتشبث ببصيص أمل فى البقاء، فإن مسيرة الإصلاح وبناء الجمهورية التونسية الثالثة قد انطلقت، بغير توقف، ودونما قابلية للارتداد للماضى. وفى معرض رفضه لأى حوار مع «الخلايا السرطانية»، التى وصمت ثورته التصحيحية بالانقلاب، استلهم سعيد صيحة انتفاضة 2011، «خبز وماء وبن على لا»، ليُرصِع ملحمته الوطنية الراهنة بشعار «خبز وماء ولا عودة للوراء». ما من شأنه تعميق محنة حركة النهضة، وتكريس عزلة قياداتها، على مختلف الأصعدة.