ألقى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، يوم الخميس الماضى (7/9/2018)، خطبة فى حشد من أنصاره فى مدينة مونتانا الأمريكية. يُظهر البث المباشر للخطبة شابًا يافعًا، يرتدى قميصا كاروهات، ويقف خلف الرئيس ترامب، ويظهر وجهه، وجزء من جذعه بوضوح للمشاهدين. أظهرت الكاميرا استجابات الشاب العفوية للخطبة؛ وركزت على تعبيرات وجهه، وتلفظه الهامس لأدوات استفهام. بعد انتهاء الخطبة، تسارعت وسائل الإعلام الأمريكية للتعرف على الشاب، الذى أصبح يُعرف بـ(الشاب المرتدى قميصًا كاروهات)، وتبين أن اسمه تايلور لينفستى، طالب بإحدى المدارس الثانوية، ويبلغ من العمر سبعة عشر عامًا. هذا المقال مخصص لتقديم تحليل مبسط لاستجابات تايلور لخطبة ترامب، التى أراها مثالا دالا على الاستجابة البليغة التى يقوم بها الجمهور الرشيد.
تتضمن استجابات تايلور ما يأتى:
1. النطق الهامس بأدوات استفهام متشككة أثناء تلفظ الرئيس ترامب بعبارات مثيرة للتساؤل والدهشة: فقد نطق تايلور سؤالين استنكاريين مرتين، وهو يستمع إلى الخطبة. جاءت الأولى فى سياق حديث ترامب عن المجمع الانتخابى، وفوزه على هيلارى كلينتون، وقد همس تايلور بأداة الاستفهام الاستنكارى (What ?!)، وبدت على وجهه ملامح عدم تصديق التقييم الذى قدمه ترامب للحدث. والمرة الثانية حين تحدث ترامب عن أن انتقاد معارضيه له، لم يؤثر فى شعبيته، بل على العكس فإن عدد مؤيديه يتزايدون. فهمس تايلور أداة الاستفهام الاستنكارى (Have you?!)، باستغراب شديد. والأداتان من صيغ الاستفهام الاستنكارى، تستعملان للمتشكك فى صحة أو مصداقية قول ما أو شخص ما.
2. عدم مشاركة الضحك مع الجمهور: ففى معظم المرات التى يُسمع فيها ضحك الجمهور، لم يشارك تايلور فى الضحك، أو حتى الابتسام. ويظهر التناقض واضحًا بين تعبيرات وجهه الجامدة، والضحكات المسموعة لبعض الحاضرين من الجمهور، أنه لم يتأثر بعدوى الضحك، ولم يُظهر مشاركة مصطنعة للضحك.
3. التصفيق العقلانى: لم يصفق تايلور فى كثير من المرات التى صفق فيها آخرون للرئيس ترامب. وفى حوار مع قناة سى إن إن الإخبارية ذكر تايلور أن ما كان يدفعه للتصفيق أثناء الخطبة هو اقتناعه وتأييده لبعض ما كان يقوله الرئيس ترامب، أما حين كان غير مقتنع بما يسمع، أو غير مصدق، أو متشكك، فإنه كان يمتنع عن التصفيق، مهما بلغ عدد المصفقين الآخرين.
4. عدم الخضوع لسلطة الاستجابات المعدة سلفًا: عادة ما يسعى منظمو اللقاءات الجماهيرية إلى توجيه الجمهور نحو إنتاج استجابات معدة سلفًا، تدعم مصالح المتكلم والجماعات التى يمثلها. وقد ذكر تايلور أن مساعدى الرئيس، قدموا للمشاركين أوامر محددة قبل بدء الخطبة، وهى تحديدًا «يجب عليكم أن تواصلوا التصفيق، وأن تكونوا مبتسمين، وأن يبدو على وجوهكم الحماس». وعلى العكس من ذلك، لم يتقيد تايلور بإكراهات الاستجابة المعدة سلفًا، وقرر، بحسب تصريحه لـ(بيزنس إنسيدر) أنه قرر أن يكون أمينًا فى التعبير عن وجهة نظره.
5. وضع شعار مضاد: طلب منظمو حفل ترامب من الشاب المرتدى قميصًا كاروهات أن يعلق على قميصه شعار الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه الرئيس دونالد ترامب، لكنه رفض. وبعد وقت من بدء الخطبة، وضع الشاب على قميصه شعار المنظمة الأمريكية للديمقراطيين الاشتراكيين، التى يدعمها.
***
يمكن النظر إلى الاستجابات التى قدمها تايلور فى هذه الخطبة على أنها نموذج لما أسميه الاستجابات البليغة. (الاستجابة البليغة) أحد المصطلحات الأساسية فى شبكة المفاهيم التى تطرحها بلاغة الجمهور. وتشير إلى العلامات اللغوية وغير اللغوية التى يُنتجها الأفراد فى سياق تلقى الخطابات السلطوية؛ بهدف مقاومة هذه الخطابات وتفنيدها، والتقليل من تأثيرها، ولفت الانتباه إلى سلطويتها. وأستعمل تعبير (الخطاب السلطوى) للإشارة إلى الكلام أو النصوص اللغوية وغير اللغوية التى تمارس تلاعبًا، أو تمييزًا، أو قهرًا، أو إقصاءً.
تشمل قائمة الاستجابات البلاغية عددًا لا نهائيًا من الاستجابات، وإذا أخذنا، على سبيل المثال، سياق الاستجابات البلاغية التى يمكن إنتاجها فى سياق تلقى خطبة سياسية، فإنها تضم:
1. عدم المشاركة فى إنتاج علامات الاستحسان التقليدية، التى يُنتجها الجمهور أثناء تلقى الخطبة السياسية؛ وتنقسم إلى علامات معلنة مثل الامتناع عن التصفيق، أو الهتاف، أو الوقوف تحية للخطيب؛ وأخرى خفية مثل ادعاء التصفيق (تحريك اليدين دون صوت)...إلخ.
2. إظهار علامات عدم التأييد؛ وتضم علامات ظاهرة مثل تجهم الوجه، والامتعاض، أو الابتسامات الساخرة، أو علامات الاندهاش والاستنكار، وأخرى خفية مثل التثاؤب، وإظهار الملل...إلخ.
3. إنتاج استجابات لغوية وغير لغوية تفنيدية؛ مثل كتابة تعليقات آنية أو لاحقة تكشف تناقضات هذه الخطابات وفجواتها، وتوضح أساليب التلاعب التى تستعملها، وتعرى أشكال التمييز والإقصاء التى تمارسها، والطرق التى تستعملها لقهر المخاطبين بها.
4. إنتاج أشكال من التشويش، الذى يستهدف إضعاف قدرة الخطاب السلطوى على إنجاز أغراضه، بواسطة إضعاف سيطرته على فضاء التواصل: وتشمل استجابات تشويش ظاهرة؛ مثل الصفير، والمقاطعة، واستجابات تشويش خفية؛ مثل الحركة المتصلة فى المكان، والتحدث مع الأفراد المجاورين...إلخ.
***
بالطبع فإن قائمة الاستجابات البليغة التى يمكن أن تُنتج فى سياق تلقى الخطابات العمومية لا نهائية، وتتغير من مجتمع إلى آخر، ومن ظروف إلى أخرى، بحسب هامش الحرية، وعادات التواصل، ومستوى وعى الجمهور، وعوامل أخرى. ويمكن أن تكون مقياسًا للحرية التى تحظى بها المجتمعات؛ فالمجتمعات التى تتمتع بحريات عامة كبيرة، تضمن لمواطنيها حرية إنتاج الاستجابات البليغة الصريحة والمباشرة على نحو ما رأينا فى حالة تايلور، الذى لم يتعرض لأدنى مضايقة بسبب صدقه فى التعبير عن استجابته لما يتلقاه. أما المجتمعات التى تُضيّق هذه الحريات، فإن أفرادها يميلون إلى إنتاج استجابات بليغة خفية، أو مقنعة؛ أو إنتاج استجابات كاذبة، مشوهة.
لا تُعدُّ الاستجابات البليغة مجرد أداة لمقاومة التلاعب والتمييز والقهر والإقصاء الخطابى فحسب، بل هى، كذلك، مرآة صادقة للتمييز بين نوعين من الجمهور؛ جمهور رشيد، يتصرف بعقلانية، ووعى، وضمير، غير مدفوع بالخوف، أو المصلحة، أو النفاق؛ مثلما تصرف الشاب المرتدى قميصًا كاروهات؛ وجمهور آخر يتصرف كالقطيع.
رابط لتسجيل قصير لاستجابات تايلور لينفستى لخطبة الرئيس ترامب يوم الخميس الموافق 7/9/2018