إلى جانب العوامل الاقتصادية، وتداعيات الحروب والنزاعات المسلحة، خلُصت دراسات متخصصة، كما تقارير «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ»؛ إلى أن التغيرات المناخية، أضحت مؤججا لما يمكن اعتباره «موجة خامسة من الإرهاب والتطرف العنيف». بما يجعلها، مصدر تهديد للاستقرار، وعاملا مساعدا على إيجاد بيئة حاضنة لجماعات التطرف والإرهاب. فمن شأن تأثيرها السلبى على الموارد الطبيعية، أن يفضى إلى إثارة الاضطرابات الكفيلة بإنتاج أجواء مواتية لظهور هذه الحركات ونموها. وفى كلمته أمام اجتماع لمجلس الأمن الدولى، فى ديسمبر2021 ، حذر، أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، من أن التغير المناخى، يمكن أن يشكل أحد العوامل المغذية للأعمال الإرهابية. وأن التدهور البيئى، الذى يجتاح العالم، يعرض أية منطقة غير مستقرة، أو تشهد نزاعات، لمخاطر وتهديدات أمنية هائلة. وشدد على أن البُلدان الأكثر عرضة للتأثر بأزمة المناخ، هى نفسها التى تعانى غياب الأمن، والفقر، وضعف الحوكمة، وتصاعد الأنشطة الإرهابية. وبناء عليه، اعتبر حلف الناتو، كما دول مثل الولايات المتحدة، فرنسا، اليابان، كوريا الجنوبية، تغير المناخ، مصدر تهديد مباشر للأمن القومى. فيما طالبت أيرلندا، بإحالة ملف التغير المناخى، إلى مجلس الأمن الدولى، نظرا لما يشكله من تهديد للسلم والأمن الدوليين.
تسهم التغيرات المناخية فى توفير الظروف، التى تتيح للجماعات الإرهابية، ترسيخ وجودها وتمديد انتشارها، عبر تجنيد الأتباع الجدد، واكتساب شرعية الوجود وممارسة العنف، مقابل تقويض شرعية الدولة. فقد تستغل هذه الجماعات التداعيات الكارثية المصاحبة لتغير المناخ، وسيلةً لممارسة التأثير والنفوذ؛ سواء على الحكومات أو الشعوب؛ من خلال تبنى تكتيكات، على شاكلة: الاستيلاء على الموارد والثروات، أو تخريبها، أو نهبها. كما قد تسعى إلى السيطرة على هذه الموارد، أو التموضع فى المناطق، التى نزح منها سكانها، بما يعظم فرص تلك الجماعات فى الانتشار وتعزيز قوتها ونفوذها.
دلفت التغيرات المناخية إلى قائمة المخاطر الرئيسة التى تهدد استقرار الدول وشرعية الأنظمة الحاكمة. فحينما تفضى أصداؤها السلبية المدمرة، إلى انعدام الأمن المائى، والغذائى، وأمن الطاقة؛ أو تآكل قدرة الدولة على توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين. لن تنج الدول من التحول إلى بيئات حاضنة للتنظيمات الإرهابية، وساحات جاذبة للحروب الأهلية والنزاعات المسلحة. وبحسب تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يعانى أكثر من نصف الدول العشرين، الأكثر تأثرًا بالتغير المناخى عالميا، ويلات تفشى النزاعات المسلحة.
أفريقيًا، يزداد الوضع مأساوية؛ خصوصا مع تنامى هشاشة الدول، وتواضع إمكاناتها، وضعف منظوماتها الأمنية. وبحسب تقديرات العلماء، ستشهد منطقة الساحل الأفريقى ارتفاعا فى درجة الحرارة، أسرع من المعدل العالمى، بمقدار مرة ونصف. ويرى مسئولون بالقيادة العسكرية الأمريكية فى أفريقيا «أفريكوم»، أن تغير المناخ يعد أحد عوامل تفاقم التهديدات الإرهابية فى منطقة بحيرة تشاد، وغيرها من مناطق الساحل الأفريقى، الأكثر عرضة للتغير المناخى، مثل مالى وبوركينا فاسو. وبالرغم من تدنى إسهامات القارة السمراء فى انبعاثات الغازات الدفيئة، فإنها تعتبر أبرز ضحايا التغيرات المناخية. نظرًا لضعف الجهوزية الكفيلة باحتواء تداعياتها، مما هيأ الأجواء لتغلغل التنظيمات الراديكالية. حيث أكد تقرير صادر عن محادثات «كوب 26» فى نوفمبر الماضى، تصدر ثمانى دول أفريقية من أصل عشر، قائمة الدول الأكثر تضررًا من الآثار السلبية للتغير المناخى. وتعد منطقة الساحل الأفريقى الغربى، مثل بوركينا فاسو، النيجر، مالى، ونيجيريا، من أشد مناطق العالم تأثرا وتضررا بالتغيرات المناخية. فهنالك، تتسابق الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، ومنها جماعات «بوكو حرام»، فى نيجيريا، والكاميرون؛ كما فروع «داعش الصحراء الكبرى»، تنظيم «القاعدة»، وتنظيم «نصرة الإسلام والمسلمين» فى مالى. مبتغية اقتناص الثروات، التى لم تلتهمها الكوارث الطبيعية، كمناجم الذهب والألماس، أملا فى تمويل أنشطتها المشينة. ولقد تمكن تنظيما «داعش» و«بوكو حرام»، من التغلغل فى إقليم الساحل والصحراء، مستغلين اللجوء، والهجرة المناخيين، المعدلات المرتفعة للفقر، البطالة، وانعدام الأمن المائى والغذائى؛ حيث نجح التنظيمان فى استقطاب وتجنيد زرافات من مواطنى الإقليم.
لم تتورع الجماعات الراديكالية عن السيطرة على المساعدات الدولية إبان الكوارث الناتجة عن التغيرات المناخية. سواء من خلال نهب هذه المساعدات، أو عبر التحكم فى مسارات دخولها البلاد، وتوزيعها على الفئات المستهدفة. فحينما أدى الجفاف، إلى حدوث مجاعة فى الصومال عام 2011، هرعت «حركة الشباب» إلى بسط هيمنتها على جنوب البلاد أثناء المجاعة. وقررت آنذاك، حظر وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، التى أسمتها «الوجه المدنى لقوات الكفار»، وهو ما ضاعف من التداعيات القاسية للمجاعة. وبينما تتعرض البلاد، هذه الأيام، لموجة عنيفة من الجفاف هددت الأمن المائى والغذائى، جنحت «حركة شباب المجاهدين» لاستغلال تلك الأوضاع المتأزمة، عبر مد نفوذها فى المناطق الأكثر تضررًا. كما عزلت الحركة المناطق التى سيطرت عليها، والغنية بمصادر المياه العذبة، عن باقى الأقاليم؛ متقصدة تكثيف الضغوط على البقاع غير الخاضعة لنفوذها. بموازاة ذلك، شرعت الحركة فى إفقار النازحين الذين يقطنون المخيمات، وفرضت سيطرتها على أراضيهم وممتلكاتهم، وعمدت إلى ابتزازهم والضغط عليهم؛ بغرض تجنيدهم واستغلالهم فى الأنشطة غير المشروعة.
ربما يدفع تراجع مستوى المعيشة فى المجتمعات، التى تكابد تداعيات تغير المناخ وانتشار البطالة، بالشباب نحو الانضواء تحت لواء الجماعات المارقة، التى تروج لسردياتها المغرضة بشأن تخلى الحكومات والدول عن مسئوليتها تجاه المنكوبين. بالإضافة إلى تقديم نفسها بوصفها الأقدر على توفير مصادر العيش الكريم للشباب المنضمين إليها. فحينما تتمخض التغيرات المناخية عن عجز الدولة عن الاضطلاع بالمهام المنوطة بها حيال مواطنيها، تتحرك التنظيمات الإرهابية، لسحب البساط، وملأ الفراغ، واكتساب الشرعية. فعندما ضربت الفيضانات المدمرة باكستان فى يوليو 2010، استغلت جماعات إسلامية، مثل طالبان، وعسكر طيبة، تقاعس الدولة، لتوفير الطعام، والمياه، والرعاية الطبية.وعبر استغلال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، حاول تنظيم «ولاية غرب أفريقيا الداعشى»، تحسين صورته فى منطقة الساحل الأفريقى، واكتساب قدر من الشرعية. عبر القيام ببعض الأدوار، التى تخلت عنها الدولة، كحفر الآبار، وتوزيع البذور والأسمدة، وتوفير المراعى الآمنة للرعاة. علاوة على تأسيس اقتصاد بديل، يتيح تأجير أماكن للمراعى وذبح الماشية، مقابل أجزاء من الذبيحة. وقد استغل التنظيم تهافت المحتاجين عليه، لفرض أفكاره فى المنطقة، واستقطاب النازحين والمهاجرين.
تتناغم هكذا ديناميكية، مع أطروحة الأمم المتحدة بأن الدوافع الاقتصادية، وليس الاعتبارات الأيديولوجية الدينية، هى السبب الرئيس لانضمام الأفراد إلى الجماعات المتطرفة فى القارة السمراء. وقد انتهت دراسات وبحوث متخصصة، إلى أن الأفراد قد يجنحون لاتخاذ قرارات بالتمرد أو الانضمام إلى جماعة متمردة، عندما يتوقعون أن تتجاوز الفائدةُ التى سيجنونها من هذا الانضمام، حجم التكاليف التى يتحملونها. وفى هذا الصدد، وجد استطلاع أجراه البنك الدولى عام 2011 لدول فى أمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط؛ أن الفاقة، كانت الدافع الأكثر إلحاحا للانضمام إلى الحركات المتمردة وعصابات الشوارع. وقد أوضحت إحدى الدراسات الميدانية، التى استندت إلى مقابلات مع مزارعين نيجيريين، أن الشباب يفضلون الانضمام إلى الجماعات الإرهابية، عندما يعتقدون أن الحكومة قد خذلتهم، فى الوقت الذى تبدى هذه الجماعات جهوزية لإنقاذهم من المجاعات. لذا، يؤكد الأمين العام للأمم المتحدة، أن التغير المناخى حينما يفضى إلى فقدان سبل العيش، ويخلف حالة من اليأس بين المواطنين، تصبح وعود توفير الحماية والدخل وتحقيق العدالة، التى يستغلها الإرهابيون أحيانًا لتنفيذ مخططاتهم الحقيقية، أكثر جاذبية.
لم تفوت التنظيمات الإرهابية فرصة الاستفادة من التمكين الرقمى العنكبوتى؛ باعتباره أداة من أدوات التجنيد. ومن ثم، أصبح الأثير الرقمى ساحة استدراج، تجنيد، توظيف، غسل أدمغة، ونقطة التقاء الباحثين عن المال الغائب، أو العقيدة التائهة، أو كليهما. قبل سنوات قليلة مضت، سلط تقرير أمريكى، بعنوان: «مواجهة سفر الإرهابى والمقاتل الأجنبى»، الضوء على كيفية استخدام الإرهاب للذكاء الاصطناعى. ليس فقط للترويج لأفكاره، ولكن فى جذب وتجنيد «مقاتلين»، من بقاع شتى حول العالم. وإلى جانب التوسع والاستقطاب، تأبى الجماعات الراديكالية إلا استغلال التغيرات المناخية ضمن استراتيجيتها الدعائية. ففى عام2010، أصدر زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، تسجيلًا صوتيًا، اتهم خلاله الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بالتسبب فى تعاظم ظاهرة الاحتباس الحرارى، بجريرة طفراتهما الصناعية. كذلك، لم ترعو تنظيمات جهادية عن تفسير التغيرات المناخية والكوارث البيئية، بوصفها «غضب إلهى» على البشر، الذين يعرقلون إقامة دولة الخلافة الإسلامية على الأرض.
يبرز، ما ذكر آنفا، محورية المقاربة التنموية، باعتبارها أحد أهم أركان الاستراتيجية الشاملة والمتكاملة لمحاربة الإرهاب؛ بموازاة مقاربات أخرى، أمنية، فكرية، وسياسية.