خطة باراجواى ١٩٦٩.. فصل منسى من مساعى تهجير فلسطينيى غزة - أمل مراد - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 4:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطة باراجواى ١٩٦٩.. فصل منسى من مساعى تهجير فلسطينيى غزة

نشر فى : الأربعاء 10 يناير 2024 - 8:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 10 يناير 2024 - 8:55 م
مع مطلع العام الجديد نقلت الصحافة الإسرائيلية عن مصادر رسمية أن حكومة بنيامين نتنياهو تتفاوض مع عدد من الدول ــ من بينها الكونغو ــ لتوطين أعداد من فلسطينيى غزة، فيما تطلق عليه تلك الحكومة «هجرة طوعية» و«حلا إنسانيا» للأزمة فى القطاع.
هذه المحاولة الإسرائيلية الأخيرة لتهجير سكان غزة تدعو إلى استرجاع محاولة سابقة مماثلة قامت بها حكومة جولدا مائير عام ١٩٦٩ لتهجير ٦٠ ألف فلسطينى من غزة إلى إحدى دول أمريكا اللاتينية، فيما أطلق عليه «خطة باراجواى». بقيت هذه الخطة السرية لعقود طويلة غير مؤكدة المعالم، إلى أن كشف تفاصيلها فى منتصف ٢٠٢٠ صحفى إسرائيلى فى هيئة الإذاعة الإسرائيلية اسمه عيران شيكوريل من واقع محاضر اجتماعات لمجلس الوزراء الإسرائيلى أفْرج عنها حينئذ.
ما هى خطة باراجواى؟
بعد عامين من حرب ١٩٦٧ واحتلال إسرائيل لقطاع غزة، وتتويجا لجهود إسرائيلية مكثفة وعلى عدة أصعدة لإيجاد سبيل لتصفية قضية اللاجئين من فلسطينى ١٩٤٨ فى القطاع، بحثت «خطة باراجواى» فى اجتماع للحكومة الإسرائيلية برئاسة جولدا مائير عام ١٩٦٩. وحسب محضر الاجتماع، اعتبرت مائير الخطة على درجة من الحساسية تفرض اتخاذ قرار بشأنها بموافقة الجميع.
عرض تسفى زامير ــ رئيس الموساد فى ذلك الوقت ــ عناصر اتفاق توصل إليه جهازه مع حكومة باراجواى، الدولة اللاتينية الصغيرة الحبيسة والمأزومة سياسيا واقتصاديا، وافقت بمقتضاه حكومة ألفريدو ستروزنر ــ ديكتاتور باراجواى ــ بين عامى ١٩٥٤ و١٩٨٩ على استقبال وتوطين ما يصل إلى ٦٠ ألف عربى مسلم من سكان غزة (نحو ١٠٪ من سكان القطاع فى ذلك الوقت) على مدى أربع سنوات، مشيرا إلى أن حكومة باراجواى تفترض فى ديانتهم نفيا لأن يكونوا من الشيوعيين، وهو شرط مهم لحكومة مثلت مكافحة الشيوعية شغلها الشاغل ومبرر بقائها. كما أوضح أن باراجواى ستمنح المهاجرين إقامة فور وصولهم، والجنسية خلال خمس سنوات، وأنهم سيعملون فى قطاع الزراعة الذى كان بحاجة ماسة إلى أيدى عاملة.
من جانبها تعهدت إسرائيل بتحمل نفقات تسفير المهاجرين الفلسطينيين، ومنح كل منهم ١٠٠ دولار لبدء حياته فى مقر إقامته الجديد، ودفع ٣٣ دولارا عن كل مهاجر لحكومة باراجواى. وقدرت التكلفة الإجمالية على إسرائيل فى حالة النجاح فى تهجير العدد الإجمالى (٦٠ ألف مهاجر) بثلاثة وثلاثين (٣٣) مليون دولار.
وفى حين أكد زامير أن إسرائيل لم تتعهد لباراجواى بإعادة أى من المهاجرين الفلسطينيين فى أية حالة، فقد أوصى بقبول عودة المهاجرين إذا ما أثار كشف الاتفاق فضيحة دولية. واعتبر رئيس الموساد الدخول فى اتفاق من هذا النوع مع باراجواى توظيفا مفيدا لعلاقات إسرائيل بنظام ستروزنر، الذى رأى فيه نظاما مستقرا ومحل ثقة، رغم ــ أو ربما بسبب ــ طبيعته القمعية والانتهاكات التى ارتكبها فى حق شعبه، وخاصة السكان الأصليين. وتجدر الإشارة إلى أن تلك العلاقات الجيدة مع باراجواى جاءت فى سياق تعاون إسرائيل العسكرى والأمنى مع عدد من النظم العسكرية اليمينية فى أمريكا اللاتينية ضمن مواجهتها للمد اليسارى فى القارة، تماشيا مع التوجه الاستراتيجى الأمريكى أثناء الحرب الباردة لحرمان الاتحاد السوفيتى من فرصة توسيع نفوذه فى نصف الكرة الغربى.
بخلاف تقاسم الالتزامات المحددة سالفة الذكر، أثار الصحفى الإسرائيلى عيران شيكوريل بعدا آخر غير منصوص عليه فى الاتفاق بين البلدين، بإشارته إلى تزامن توقيت إقرار خطة باراجواى مع قرار إسرائيل إيقاف تعقب القيادات النازية الفارة من ألمانيا إلى باراجواى (ودول لاتينية أخرى)، وعلى رأسهم جوزيف مينجيله (ملاك الموت) الذى نفذ بنفسه تجارب علمية مميتة على اليهود وزج بهم فى غرف الغاز فى معسكر أوشفيتس، بما يثير شكوكا فى أن يكون قبول باراجواى لاستقبال المهاجرين الفلسطينيين مقابل غض إسرائيل الطرف عن مينجيله وغيره من النازيين الألمان. ولعل هذا، إن صح، يفسر حرص إسرائيل على التكتم على الخطة تخوفا مما قد يسببه كشفها من إساءة لسمعتها فى صفوف الناجين من المحرقة كحامية لليهود فى العالم.
يذْكر أن هذا الاتفاق مع باراجواى لم يكن منتهى أمل حكومة جولدا مائير، وإنما كان أفضل ما أمكن التوصل إليه بعد جهد طمح فى توطين الفلسطينيين فى بلدان أكثر وأكبر مثل البرازيل، وهو طموح لم يمكنها تحقيقه.
مآل الخطة
بعد إقرار الخطة، روجت إسرائيل للهجرة إلى باراجواى بين فلسطينيى غزة من خلال شركة سياحة لتبدو الهجرة طبيعية و«طوعية». وللتغلب على ضعف الاستجابة الفلسطينية لعرض التهجير، رغم ارتفاع نسب البطالة بعد احتلال القطاع وفصله عن الاقتصاد المصرى، اضطرت إسرائيل إلى اللجوء إلى تقديم وعود وهمية غير قابلة للتحقيق. وبلغ التدليس حد إيهام بعضهم بأنهم سيتجهون إلى البرازيل بدلا من باراجواى، أو أنهم سيتملكون أراضى زراعية.
وفى حين لا يوجد اتفاق حول عدد الفلسطينيين الذين سافروا بالفعل إلى باراجواى، فإن المرجح فى مصادر معتبرة أنهم لم يزيدوا على ٣٠ شخصا. ووفقا لرواية باحثة الأنثروبولوجيا الفلسطينية (وابنة أخو أحد المهاجرين إلى باراجواى) هديل عسلى فى محاضرة رقمية عقدت فى أغسطس الماضى حول فلسطينيى باراجواى، كانت تجربة هؤلاء المهاجرين شديدة القسوة فى بلاد بعيدة فقيرة لا يعرفون لغتها ولا يتوفر لهم فيها أى دعم، ولم تنفذ إسرائيل خلالها أى من الوعود التى سافروا على أساسها، بما فيها المائة دولار المذكورة فى الاتفاق.
وكان غضب المهاجرين بسبب ما تعرضوا له من تدليس وخيانة عهد من السلطات الإسرائيلية سببا فى إنهاء العمل بالخطة نهاية مأسوية بعد أقل من عام من اعتمادها. ففى ٤ مايو ١٩٧٠ قام أحد المهاجرين الفلسطينيين بإطلاق النار على سكرتيرة فى سفارة إسرائيل فأرداها قتيلة وحكم على الخطة بالإلغاء لتخوف باراجواى من رد الفعل. وحكم على المهاجرين المتهمين فى هذه الواقعة بالسجن ثلاثة عشر عاما.
ورغم أن إسرائيل ادعت أن القتل كان عملا إرهابيا مخططا من منظمة التحرير الفلسطينية يستهدف السفير الإسرائيلى، فالأرجح ــ حسب عدة مصادر منها الصحفى الإسرائيلى شيكوريل ــ أن الجريمة نتجت عن غضب المهاجرين من أوضاعهم المزرية وعدم وفاء إسرائيل بما وعدتهم به، وأن ربط إسرائيل بين الجريمة ومنظمة التحرير ما كان سوى انتهاز للفرصة للإساءة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية.
الليلة والبارحة
يقود استرجاع ما هو معروف عن تفاصيل تلك الخطة الفاشلة المنسية إلى عدة استنتاجات، أولها أن هدف وخطط التهجير قديمة قدم سيطرة إسرائيل على أراضى ١٩٦٧، وليست مقصورة على الحكومة الإسرائيلية الحالية المعروفة بتطرفها الدينى والقومى غير المسبوق. فحكومة جولدا مائير العلمانية الاشتراكية كانت حريصة ذات الحرص على التخلص من أى عدد ممكن من السكان الأصليين، إعمالا لرؤية الرعيل الأول من قادة الدولة الإسرائيلية حول توسيع الدولة على أقصى حد ممكن من الأرض بأقل عدد ممكن من السكان العرب.
ثانى الاستنتاجات، أن إسرائيل كانت فى الماضى تتحايل على حوائجها بالكتمان حرصا على سمعتها الدولية وتحسبا منها ومن المتعاونين معها لرد فعل تقوده الدول العربية وعلى رأسها مصر، التى كانت ــ رغم هزيمة ــ ١٩٦٧ فى أوج قيادتها لحركة عدم الانحياز والعالم الثالث وتحظى بدعم الكتلة الشيوعية ذات النفوذ العالمى. أما اليوم، وبسبب التأييد الغربى الأعمى لإسرائيل، وتراجع الدور العربى فيما يخص القضية الفلسطينية، فإن حكومة إسرائيل المتطرفة تطرح مسعاها لاستنساخ خطة باراجواى الفاشلة فى العلن على أنه خيار إنسانى ينقذ سكان غزة مما قامت به هى ذاتها من تدمير لمقومات الحياة الأساسية على مرأى ومسمع من الجميع!
ثالثا، أن خطة باراجواى تكاد تكون أثبتت بالتجربة العملية أن اتفاقات التوطين هى أقرب إلى السراب منها إلى الممكن، وإن لم يدخل ذلك فى حسابات الحكومة الإسرائيلية الحالية التى يغرها غيها وتسامح القوى الكبرى مع غلوها لدرجة تجعلها تؤمن بقدرتها على تحقيق الأوهام. ولكن ظنى أن هذا الغى والغلو نفسه قد وصم بالفعل مثل هذه الخطط ومن قد يتعاون فى تنفيذها، لتضاف هذه الوصمة إلى قائمة عوامل أخرى تضْعف فرص إيجاد شركاء فى هذا الجرم، وعلى رأس هذه العوامل انفجار أزمة الهجرة فى مختلف أقاليم العالم.
وختاما، فإن مقاومة الفلسطينيين لضغوط «الهجرة الطوعية»، وتمسكهم بأرضهم، واحتفاظهم بحلم العودة إلى ديارهم التى هجر منها أجدادهم داخل إسرائيل، وقدرتهم المتجددة على إعادة بناء الحياة رغم كل الصعاب، كان ــ فى الماضى ــ ويظل ــ فى الحاضر والمستقبل ــ العامل المحورى فى إفشال خطط إسرائيل للتهجير بمختلف صيغها ومقاصدها. وربما وعيا منها بذلك تحديدا تحرص إسرائيل هذه المرة على الذهاب إلى أبعد مدى فى التدمير المادى لأسس الحياة بشكل غير مسبوق.
ويضع ذلك على كل من تهمهم القضية الفلسطينية ــ دولا ومنظمات وأفرادا ــ مسئولية أخلاقية وسياسية جسيمة ــ يضاعفها الفشل الجماعى فى وقف التدمير ــ للمساعدة على إعادة بناء الحياة بسرعة وكفاءة غير مسبوقة تقابل ذلك التدمير غير المسبوقة؟
أمل مراد سفيرة مصر في التشيك وتشيلي سابقا
التعليقات