رسائل من أمريكا اللاتينية إلى فلسطين - أمل مراد - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسائل من أمريكا اللاتينية إلى فلسطين

نشر فى : الإثنين 6 نوفمبر 2023 - 6:55 م | آخر تحديث : الإثنين 6 نوفمبر 2023 - 6:55 م

على خلاف ما هو معتاد من قلة التفات الرأى العام المصرى والعربى لما يجرى فى دول أمريكا اللاتينية باعتبارها بعيدة عن واقعنا ومنطقتنا، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعى فى الأيام الأولى من الحرب على غزة احتفاء بالموقف المبكر والصريح لرئيس كولومبيا جوستافو بيترو الذى أدان رد الفعل الإسرائيلى على عملية حماس فى السابع من أكتوبر، خاصة أنه جاء فى خضم موجة دولية عاتية بقيادة الولايات المتحدة تمنح إسرائيل غطاء مفتوحا لما اعتبروه حقها فى الدفاع عن نفسها دون قيود، وهو موقف لم يقوَ على الخروج عنه على المستوى الرسمى إلا دول قليلة.
رفض الرئيس الكولومبى الاستجابة لمطالبة سفير إسرائيل المباشرة له عبر تطبيق إكس (تويتر سابقا) بإدانة حماس، مفضلا بدلا من ذلك أن يشدد على أن إنهاء الاحتلال الإسرائيلى من خلال مفاوضات سلام هو السبيل الوحيد لتحقيق أمن الشعبين الإسرائيلى والفلسطينى على حد سواء، وشبه الوضع فى غزة بمعسكرات الاعتقال النازية، وذكر أنه ذات يوم سيطلب الجيش الإسرائيلى والحكومة الإسرائيلية الصفح عن جرائمها فى فلسطين وفى كولومبيا أيضا، فى إشارة ضمنية إلى دور شركات الأمن الإسرائيلية فى الصراع الأهلى فى بلاده. وقد جاءت تلك الإشارة فى سياق رده على تهديد إسرائيل بوقف صادراتها إلى كولومبيا، بما فى ذلك صادرات المعدات الأمنية، وهو أحد القطاعات التى تميز علاقات إسرائيل بعدة دول فى أمريكا اللاتينية وتعطيها مكانة وأهمية نوعية تتخطى حجم العلاقات الاقتصادية معها.
• • •
مع تصاعد وحشية العدوان الإسرائيلى فى الأيام التالية على ذلك، وتعالى أصوات الانتقاد والإدانة من أركان متعددة من العالم، استيقظنا فى العالم العربى صباح أول نوفمبر بعد قصف مخيم جباليا، وقد قطعت بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل وسحبت تشيلى وكولومبيا سفراءهما فى تل أبيب للتشاور، قبل أن تقوم بذلك أى دولة عربية. وقد كان لبوليفيا وتشيلى مواقف معلنة ناقدة لرد الفعل العسكرى الإسرائيلى قبل هذا القرار، اتساقا مع مواقف حكومتى البلدين المعروفة بدعمها للقضية الفلسطينية، وإن لم يبلغا قوة ولا درامية موقف الرئيس الكولومبى على وسائل التواصل الاجتماعى. ثم تبعتهما هندوراس فى الثالث من نوفمبر آملة فى أن يساعد ذلك على لفت الانتباه إلى ما يتعرض له السكان المدنيون فى غزة.
وبين هذا الموقف وتلك القرارات المتعاقبة تابعنا موقف البرازيل، أكبر دول القارة وأنشطها على الساحة الدولية، حين وصف رئيسها لولا دا سيلفا بعد تطور الأحداث ما تقوم به إسرائيل فى غزة بالإبادة الجماعية ومطالبته بوقف إطلاق النار وحماية المدنيات والمدنيين الفلسطينيين، وذلك بعد أن كان رد فعله الأول فى مطلع الأحداث مخيبا لآمال البعض بتعبيره عن رفض العملية التى وصفها بالإرهابية التى قامت بها حماس فى السابع من أكتوبر والاكتفاء بمطالبة المجتمع الدولى بتبنى مفاوضات سلام بين الأطراف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مفتاح الاختلاف بين موقف البرازيل الأولى ومواقف الدول الغربية أنه لم يرتب على إدانته لعملية حماس تأييدا أو تشجيعا لممارسة إسرائيل لحق الدفاع عن النفس، منتقلا من الإدانة إلى المطالبة بعلاج أسباب الصراع الأصلية.
كما قامت البرازيل باعتبارها عضوا غير دائم ورئيسا دوريا لمجلس الأمن خلال شهر أكتوبر المنصرم بدور عقلانى فى محاولة لتمكين مجلس الأمن من الاضطلاع بدوره والمطالبة بوقف إطلاق النار، وقيامها بتقديم مشروع قرار يوقف إطلاق النار بصيغة نجحت فى جذب تأييد اثنى عشر من أعضاء المجلس، وهو ما اضطر الولايات المتحدة لاستخدام حق النقض (الفيتو) لمنع صدوره. وقد استحق دور البرازيل شكرا مطولا فى كلمة وفد فلسطين فى نهاية رئاستها للمجلس.
• • •
البلدان سالفة الذكر (البرازيل وكولومبيا وبوليفيا وتشيلى وهندوراس) حكوماتها يسارية ورؤساء أغلبها معروفون بمواقف ممتدة مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطينى، باعتبارها قضية تحرر من الاستعمار وقوى الهيمنة، بما يتقاطع مع علاقة اليسار الديمقراطى اللاتينى المركبة بالجار الأمريكى، بسبب تاريخ دعمه لليمين الديكتاتورى والحكم العسكرى فى غالبية دول القارة. وفى تلك الدول الأربعة يكاد يكون من المؤكد أن حكومة أخرى ذات توجه مختلف فى ذات الدولة كان سيحول دون اتخاذها نفس الموقف أو استخدامها لنفس الخطاب. ويمكن التدليل على ذلك بتخيل موقف البرازيل فى أعقاب السابع من أكتوبر إذا ما كان الرئيس السابق جايير بولسونارو المؤيد لإسرائيل لأسباب تكاد تكون عقائدية، إذا ما كان قد ربح الانتخابات الأخيرة فى بلاده بدلا من الرئيس الحالى. كما يفيد فى هذا التخيل أن نتذكر أن هندوراس نفسها كانت قد نقلت سفارتها إلى القدس عام ٢٠٢١ فى نهاية حكم رئيسها اليمينى السابق، إرضاء للولايات المتحدة تحت رئاسة دونالد ترامب، لتجىء الرئيسة التقدمية الحالية وتتخذ خطوة سحب السفير.
ولكل دولة خصوصيات محلية لعبت دورا إضافيا فى تشكيل موقفها وتحديد تبعاته، إن تخفيفا أو تشديدا. فإذا كانت العلاقات الإسرائيلية البوليفية محدودة أصلا بما يجعل قرار قطع العلاقات يسيرا، فإن الأمر يختلف فى باقى الدول.
فإذا ما أخذنا تشيلى مثالا، نجد أن هذا البلد الواقع فى نهاية العالم حرفيا، احتاج دوما أن يوازن فى تناوله للقضية الفلسطينية بين احتضانه لأكبر وأنجح جالية من أصل فلسطينى فى أمريكا اللاتينية ــ وربما فى العالم خارج الشرق الأوسط ــ وبين احتضانه لجالية يهودية صغيرة ولكن منظمة ومدعومة بعلاقة مع إسرائيل ركيزتها تاريخ ممتد من التعاون فى مجالات أمنية وتكنولوجية. وقد أدى ذلك إلى اتخاذ حكومات تشيلى المتعاقبة موقفا من الأوضاع فى فلسطين يحتكم إلى الشرعية الدولية فى تحديد المواقف المعلنة والتصويت فى الأمم المتحدة إلى جانب الدول العربية بصرف النظر عن الحكومة، مع موازنة اهتمامها بعلاقاتها الثنائية مع إسرائيل بعلاقات ودية مع السلطة الفلسطينية.
وفى حين أسس رئيس الجمهورية الشاب جابريل بوريتش قرار سحب السفير من تل أبيب على انتهاك إسرائيل للقانون الدولى الإنسانى (الشرعية الدولية) ، فإنه بسحب السفير أعاد تعريف مفهوم التوازن فى العلاقة بين طرفى الصراع بعيدا عن الحياد فى القضايا الخلافية وفى اتجاه تطبيق نفس المبدأ بشكل متساوٍ (مبدأ حماية المدنيين). وقد فتح ذلك على الرئيس باب الهجوم من أبناء الجالية اليهودية، وربما حفيظة مؤسسات فى الدولة مهمتها الإبقاء على توازنات السياسات الخارجية عبر الإدارات وحريصة على الحفاظ على استمرارية العلاقات مع إسرائيل فى المجال الأمنى، الذى لوحت إسرائيل به فى السجال مع الرئيس الكولومبى. يعنى ذلك أن أبعد الدول لا يخلو اتخاذها لتلك المواقف من تعقيدات.
وتختلف تلك المواقف عن المواقف التضامنية القوية والمعروفة للجمهوريات اليسارية الثلاثة التى لا تسمح فى الوقت الراهن بتداول السلطة (كوبا وفنزويلا ونيكاراجوا)، دون أن يقلل ذلك من قيمة تلك المواقف التضامنية وتقديرنا لها بطبيعة الحال. فمواقف هذه الدول الثلاثة تتسق مع تحالفاتها الدولية، وتمثل امتدادا طبيعيا لها وليس خروجا عنها، وهو ما يجعل دلالاتها القانونية والأخلاقية أقل إقناعا خارج نطاق هذا التحالف المناهض صراحة لإسرائيل. كما أن اتخاذ دول ديمقراطية لهذه المواقف يتميز بأنه يحرم الولايات المتحدة وإسرائيل من التصوير غير المنطقى للحرب الراهنة على أنها جزء من صراع بين الديمقراطية والديكتاتورية.
• • •
مواقف هذه الدول قد لا تكون قادرة على تغيير الواقع المرير وموازين القوة على الأرض، ولكنها تكتسب قيمتها من انتصارها لمبادئ أخلاقية وقانونية فى غياب مصلحة مباشرة بل وخلافا لمصالح مباشرة فى بعض الأحيان. كما أنه يمكن اعتبارها، مدعومة بتحركات شعبية عبر العالم، إسهاما فى تشكيل موجة عكسية آخذة فى الارتفاع تعبر بشكل ما عن ضمير الإنسانية، وتوجه رسائل تحذير إلى إسرائيل، وترفع تكلفة غطرستها غير المسبوقة، ليصبح ذلك كله أساسا يمكن البناء عليه فلسطينيا وعربيا لإعادة تعريف موقع القضية الفلسطينية فى هيكل النظام الإقليمى الذى كاد يدفن تلك القضية تحته، وإعادة تعريف مكان إسرائيل، الذى كان قد تغول بشكل لا يستقيم مع متطلبات نظام إقليمى مستقر. ولهذا كله فإن هذه المواقف تستحق منا الاعتراف والتقدير، وتستوجب منا تحركا دبلوماسيا نشطا للاستفادة منها.

أمل مراد سفيرة مصر لدى تشيلي سابقا
التعليقات