«المدينة» كما اقتنصتها الكاميرا! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 8:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«المدينة» كما اقتنصتها الكاميرا!

نشر فى : السبت 7 سبتمبر 2024 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 7 سبتمبر 2024 - 8:25 م

(1)

لعل من أجل فوائد الحضور المباشر لندوات أو محاضرات «لايف» حول كتابٍ جديد أو موضوعٍ مطروح للمناقشة، هو تلك الطزاجة والحيوية التى يتم بها عرض الأفكار أو تسليط الضوء على منهجية الكتاب أو على الفرضيات التى قام عليها وسعى لإثباتها، فضلًا على إغناء هذا العرض أو هذه المناقشة بأمثلة وشواهد من المواد التى اعتمد عليها الكتاب فى إثبات فكرته أو فى تحليلها هى ذاتها! ولعل اللقاء الأخير الذى نظمته مكتبة مصر العامة، لمناقشة كتاب «مدن سينمائية» الصادر أخيرًا عن دار العين للنشر، وكتبه بالإنجليزية مؤرخ العمران الشهير الدكتور نزار الصياد، وترجمته إلى العربية الأستاذة هالة حسنين.. نموذجٌ ممتاز على الفائدة الكبرى التى يخرج بها حضور اللقاء، فائدة مضاعفة من المتعة والمعرفة والنقاش المثمر، وأخيرًا الغاية الأهم وراء كل مناقشة، وهى الدعوة المفتوحة لقراءة الكتاب والانخراط فى حوارٍ حر منتج مع أفكاره، مثلما فعل مناقشا الكتاب ببراعة واقتدار. (2) وأعترف بأننى سعدتُ سعادة كبيرة جدا، وأنا أستمع إلى الصديق والمهندس وأستاذ عمارة المدن المرموق نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران المتميز، بجامعة كاليفورنيا، ببيركلى، وهو يقدم عرضًا سينمائيا شائقًا لنماذج من الأفلام السينمائية التى بنى عليها مادة كتابه الضخم القيم المرجع، والذى يدور حول فكرة رئيسية تظهر بوضوح فى عنوان الكتاب الفرعى «مدن سينمائية ـ تأريخ للحداثة الغربية من الشاشة إلى الواقع». فكرة الكتاب ببساطة تقوم على تتبع مظاهر الحداثة الغربية كما اقتنصتها أو صورتها أو عالجتها أفلام السينما العالمية منذ الثلث الأول للقرن العشرين وحتى نهاياته. وقد استثمر المؤلف خبراته المعرفية والأكاديمية وشغفه بالسينما ليقدم نموذجا راقيا ومحكما لما يمكن أن نطلق عليه دراسة ثقافية بينية. يبحث مؤرخ العمران، فى نماذج منتقاة من الأفلام السينمائية، فكرة «المدينة» وتطورها وتجسيدها للحداثة وما بعدها سلوكًا وتأملًا ونظرًا، فكرة العلاقة بين المدينة وسكانها وما تفرضه من طوابع وسلوكات مرتبطة بطبيعة العمل وتقسيمه وقيمة الوقت، والانتماءات الطبقية، وسعى الإنسان للتواؤم مع الواقع والمكان. وفى سبيل ذلك لم يكتف المؤلف بالبحث عن الأفلام التى تناولت موضوع المدينة فقط بل وسع الدائرة واتخذ من كل فيلم عرض للمدينة قصدا أو دون قصد واقتنص شيئا من ملامحها وروحها بحسب رؤية صانعيه، اتخذ منها مادة أيضا للقراءة والتحليل! (3) وقد ناقش الكتاب اثنان من كبار المتخصصين فى السينما والثقافة، كل من منظوره وتراكم خبراته المعرفية والبصرية؛ فالدكتورة سلمى مبارك أستاذة الأدب الفرنسى بجامعة القاهرة، وصاحبة الجهد الوافر والمشكور فى ترسيخ معرفة السينما، والتعرف عليها والاستناد إليها فى تدعيم خبراتنا الإنسانية والبصرية والمعرفية على السواء، وشاركها الحديث والحوار أخى وصديقى الناقد الكبير والقدير محمود عبد الشكور الذى أمتع الحضور حقيقة بتحليل وافٍ لأفكار الكتاب الرئيسية، ورؤيته، فضلا على أنغام وظلال ذاتية رائعة من محبته الفائضة للسينما وعشقه لها ومعرفته بها. كانت المناقشة ثلاثية، وكأنها ببراعة منقطعة النظير مثلت توازيا رائعًا بين أفكار الكتاب الرئيسية التى دارت حول ثلاثة تصورات أو مفاهيم مركزية، والعلاقات التى تتشكل بينها جميعًا؛ وهى: «السينما» بما هى تجل للحداثة والتطور العلمى الحديث، ومفهوم «الحداثة» ذاته الذى حكم التجربة الغربية بأسرها، فى تأسيسها الفلسفى والمعرفى فى القرن الأخير، ثم «المدينة» فى ثباتها أو تغيرها ومدى حكمنا أو رؤيتنا لهذا التغير إيجابًا أو سلبًا. و«المدينة» هى انشغال مؤلف الكتاب الأصيل بما هى تجسيد أيضًا لوعى الحداثة وتطورها فضلا على اتصالها الوثيق بمفهوم «العمران» فى بعده الحضارى والإنسانى الذى ينطلق منه مؤلف الكتاب انطلاقًا تأسيسيّا فى منهجيته وأدوات تحليله على السواء. (4) طرحت الدكتورة سلمى مبارك قراءتها المكثفة الرائعة للكتاب، مركزة على منهجيته و«بينيته» إذا جاز التعبير، فقد رأت فيه «كتابًا استثنائيّا فى قدرته على الإبحار السلس عبر نظمٍ معرفية مختلفة، وصهرها فى بوتقة تنساب منها المعارف والنظريات فى الفلسفة والعمران وعلم الاجتماع والجغرافيا والتاريخ لكى تصب فى تحليل الفيلم السينمائى، بأسلوب يحمل من العمق والرصانة المعرفية والدقة العلمية ما يحمله من شاعرية يذوب فيها قلم الكاتب مع المادة التى يقدمها». أما محمود عبد الشكور، وكعادته فى أى قراءة له، فبالمبدأ والمعاد هو الفن والدراما، لا يغفل أبدًا طبيعة الفيلم الفنية، نقرأه كيفما شئنا ونفسره ونؤوله أيضًا بحسب أى وجهة نشاء، بشرط عدم الإخلال بطبيعة الفيلم الأصلية، باعتباره فنّا ومعالجة لفكرة أو موضوع يطرحها صناعه حسب وجهة نظرهم، وتصورهم الخاص، فى هذه الحالة يصبح الفيلم مجسدًا لوجهة نظر أو حافظًا لملمح مدينة أو عابرا على مشهد وفق رؤية وأعين صناع الفيلم، وليس وفق التصورات التى نريد أن نسقطها عليها! (وللحديث بقية)