يعانى النظام المصرى منذ عام ١٩٥٢ من عدم القدرة على الموازنة بين سياسته الداخلية من ناحية وسياسته الخارجية من ناحية أخرى. فقد حقق الرئيس جمال عبدالناصر نجاحا ملموسا على مستوى مركز مصر الإقليمى والدولى فى حين كان نظامه شبه شمولى فى الداخل. وكانت النتيجة أن ترجم عدم نجاح نظامه السياسى الداخلى فى نكسة عسكرية فى الخارج. عانى نظام الرئيس السادات من نفس عدم التوازن. ففى حين خطط ونفذ حرب أكتوبر ١٩٧٣ ومعاهدة السلام والتحالف مع الولايات المتحدة، فشل فى ضمان قاعدة داخلية لنظام حكمه وانتهى الأمر باغتياله. أما الرئيس السابق حسنى مبارك، فقد نجح خارجيا نجاحا نسبيا وفشل داخليا فشلا ذريعا.
لقد كان من «المنفر» أن نرى كيف أن معظم القوى الإقليمية والدولية كانت تفكر مئة مرة قبل أن تعلن موقفا أو تصريح ضد نظام الرئيس مبارك. ولكى نكون موضوعيين، فإن السياسة الخارجية لنظامه لم تكن على نفس القدر من الفشل، الذى تعانى منه سياسياته الداخلية. فيكتب لمبارك أنه استطاع أن يحسن علاقات مصر بمختلف القوى الدولية على مختلف توجهاتها. وإن لم ينف ذلك أنه سلك مسلك الخضوع والخنوع لاسترضاء بعض هذه القوى. بل ورضى بالتخلى عن الاستقلال التام لقرارات مصر فى سياستها الخارجية. وعليه، فإن السياسة الخارجية لنظام مبارك كانت مناسبة و«مريحة» بالنسبة للقوى الإقليمية ــ خاصة دول الخليج وإسرائيل ــ وللقوى الغربية ــ خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وأن تتبنى دولة بحجم مصر وثقلها الإقليمى سياسة تتوافق مع سياسات الفاعلين الرئيسيين فى المنطقة العربية إنما هو بمثابة الكنز الذى لا يجب التفريط فيه. لذلك كانت القوى العربية والدولية فى حيرة من أمرها: هل ندعه يسقط ونكسب الشعب المصرى ونصدق فيما ندعيه من حماية مبادئ العدالة والحرية والديمقراطية والإسلام ونجفف أحد منابع التطرف والإرهاب (القمع السياسى)؟ أم نساند أهم حليف لنا ونضمن استمرار نظام عربى وشرق أوسطى ملائم لمصالحنا؟
والحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية سارت على خط الوسط بين نظام مبارك والثورة. فنادت بما تنادى به دائما من الاستجابة لمطالب الإصلاح السياسى وضبط النفس والحوار وعدم استخدام العنف. وهى عبارات ومناشدات سبق وأن وجهتها هذه العواصم للنظام المصرى علنا وفى الكواليس الدبلوماسية. إلا أننى أعتبر أن الضربة الأقوى للثورة جاءت من الأنظمة العربية وتحديدا الأنظمة الخليجية.
فالحق يقال إنه من مزايا نظام مبارك أيضا تحسين علاقات مصر بدول الخليج بحيث طمأنها أن مصر لن تمثل أبدا تهديدا لأنظمتها المحافظة وأن حقبة الحرب الباردة بين نفس هذه العائلات المالكة ومصر عبدالناصر قد ذهبت بلا رجعة، ولا يخفى على أحد أن هذه الدول أغدقت مصر خلال الثلاثين عاما الماضية بالاستثمارات والمنح والعطايا والمساعدات والهبات لتضمن موالاة النظام المصرى لها أولا ولتضمن استقراره داخليا ثانيا، فمصر قوة إقليمية وإن استقرارها واستمرار قوتها العسكرية بشكل خاص هى أمور حيوية بالنسبة لدول الخليج.
ولكن، أن تتفق سياسة مبارك الخارجية مع سياسات دول الخليج شىء وأن تشجعه هذه الدول على ذبح شعبه شىء آخر! فلم أكن أتصور أن تصل أنظمة الخليج إلى حد حث مبارك على قمع شعبه وطمأنته بأنها سوف تعوضه إن قطعت الولايات المتحدة المساعدات السنوية عن نظامه! ولم أكن لأتصور أن تضغط بعض هذه الدول بعينها على الإدارة الأمريكية وتهددها بالتوتر فى علاقاتها الثنائية إذا تخلت واشنطن عن مبارك! فلا بأس أن تعرض بعض الدول الخليج استضافة الرئيس السابق، ولكن أن تدعم بعض هذه الدول خطط مبارك فى قتل الشعب الذى خرج منه الجنود الذين دافعوا عنها ضد خطط صدام حسين شىء آخر! فكيف سولت لحكام الخليج أنفسهم إعانة نظام مفترس على قتل الشعب، الذى ينتمى إليه الملايين ممن عمّروا دول الخليج حينما لم تكن سوى صحارى، وعاشوا بين أهلها لعدة عقود؟ ولعل الدرس المستفاد هنا أن الشعب لا يجب أن يسكت على النظام الفاسد إن حكمه هو فقط وإنما لا يجب أن يسكت عليه أيضا إن حكم جاره! ويقترب هذا المنطق من ذاك الذى قامت عليه الحروب الباردة العربية فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى وهو المنطق ذاته، الذى اتفقت الأنظمة العربية على دفنه إلى الأبد بتقديس مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية لبعضها البعض. إن تجربتا مصر وتونس أثبتتا أن الأنظمة العربية لا تكتفى بقمع شعوبها بل هى مستعدة لتصدير القمع إلى الشعوب «الشقيقة».
لقد خصصت «بالعتاب» دول الخليج لما لها من وزن اقتصادى وإسلامى إقليميا وعالميا ولما لبعض حكامها من سمعة طيبة ونوايا فعلية للإصلاح السياسى. فأنا أعلم جيدا أن نظام مبارك كان حليفا لمعظم أنظمة الخليج وأن صداقة شخصية ربطت بين بعض حكام هذه الدول والرئيس المصرى السابق، كما أعلم أن الوقوف إلى جانب الصديق فى وقت الضيق من شيم أهل الجزيرة العربية. ولكن، هل يعقل أن تفتدى روح شخص واحد ظالم ــ و إن كان صديقا ــ بأرواح الآلاف من المصريين؟ أهذا هو رد الجميل لمصر التى طالما رفع شعبها ــ و ليس نظامها ــ رأس العرب عاليا؟
لعل الدرس الأخير الذى يجب أن تتعلمه سائر الأنظمة العربية هو أن مساندة العالم أجمع لا تنفع إن أراد الشعب تغيير النظام. فكفى تملقا للخارج وقمعا فى الداخل. وتعلموا من قلب أنظمة الشاه فى ١٩٧٩ واغتيال السادات فى ١٩٨٠ وسقوط أنظمة بن على ومبارك فى ٢٠١١ وغيرها. إن الخارج لن يسندكم إلا إذا توكأتم على شعوبكم، وتذكروا أنه حينما أرادت القوة العظمى تغيير أنظمتكم بعد سبتمبر ٢٠٠١ فشلت فقط لأن شعوبكم كرهت أن تتعاون معها لتنفذ لها ما تريد. ولكن إن قررت الشعوب اليوم التخلص منكم، لن تتدخل أمريكا ولا فرنسا لحمايتكم.