فى مثل هذا اليوم، العشرين من رمضان، بالعام الثامن للهجرة النبوية الشريفة، الموافق، العاشر من يناير لعام 630 ميلادية؛ أنعم الحق، تبارك وتعالى، على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصحابته، رضوان الله عليهم، بفتح مكة، دونما قتال. حيث أبى، الرحمة المهداة، إلا حقن الدماء، موصيا أصحابه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. كما أعطى الأمان لكل من يلقى سلاحه، أو يلزم بيته، أو يلوذ بالبيت الحرام، أو يدخل بيت أبى سفيان. وإن كان ذلك لم يحل دون حدوث اشتباك محدود بين رهط من جيش، خالد بن الوليد، وعصبة مارقة من قريش، بقيادة عكرمة بن أبى جهل. إذ رفضت الأخيرة أمان النبى، وآثرت التصدى لجحافل المسلمين، ما أسفرعن مقتل ثلة من الجانبين. ثم ما لبثت الأوضاع أن استقرت، بفرارالفلول القرشية إلى بيوتها، حتى تأمن من الهلاك.
تعود بدايات فتح مكة، إلى السنة الخامسة من الهجرة، حيث غزوة الخندق، التى أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم عقب نصرة الله له فيها، عبارته الشهيرة: «الآن نغزوهم ولا يغزونا». فعلى وقع تلك المنازلة العصيبة والفاصلة، تفككت أوصال محور الشر، الذى التأم بين اليهود ومشركى مكة، كما تبددت الآمال فى معاودتهم التحالف مجددا. ومن ثم، أمن المسلمون الاضطرار إلى القتال على جبهتين معاديتين فى وقت واحد. وعلى إثر ذلك، أخذت رقعة الإسلام فى التنامى والاتساع، مقابل الانحسار والأفول التدريجيين للقوتين الضاربتين المعاديتين آنذاك، والمتمثلتين فى يهود المدينة، ومشركى مكة، ومن شايعهم. حيث لم يبقَ لليهود من تمركزات فى جزيرة العرب، سوى خيبر الحصينة، بينما اقتصرت مرابض المشركين على مكة، وبعض القبائل والتجمعات الصغيرة المحيطة، التى لا يستعصى على سرايا مسلمة محدودة، تبديد خطرها.
ما إن أبرم المسلمون «صلح الحديبية»، مع مشركى مكة، فى السنة السادسة للهجرة النبوية؛ حتى عمدوا إلى استثمار أجواء السلم والهدنة، التى تمخضت عنه، لبلوغ غايات استراتيجية ثلاث: أولاها، التوسع فى النشاط الدعوى، لنشر الإسلام فى شتى بقاع الجزيرة العربية، توطئة للتوجه إلى خارجها. وثانيتها، وأد الخطر اليهودى، الذى يتهدد الإسلام والمسلمين فى المدينة ومحيطها. فرغم تيقنهم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نبى آخر الزمان، وأن الإسلام هو الدين الحق، لم يتورع اليهود عن التفنن فى معاداة الإسلام والمسلمين، متحينين الفرص للنيل منهم. سواء من خلال الحروب المباشرة، أوعبر تدبير المكائد والدسائس والمؤامرات، ودعوة أهل الكفر والشرك، للانضواء تحت لواء المحاور والأحلاف العسكرية المناهضة للنبى وأصحابه.
وبناء عليه، لم يجد الرسول الكريم، مناصا من قطع دابر يهود جزيرة العرب، حتى يأمن مكرهم وشرورهم. وقد بدأ بيهود «بنى قينقاع»، ويهود «بنى قريظة»، ويهود «بنى النضير». قبل أن تأتى المواجهة الأصعب والحاسمة مع يهود «خيبر»، فى السنة السابعة للهجرة. وبنصر الله عباده المسلمين فى تلك الأخيرة، قويت شوكتهم، وتعزز نفوذهم، وتعاظم خيرهم، حتى قال قائلهم: «ما شبعنا إلا بعد فتح خيبر». وأما الغاية الثالثة، فتجلت فى تقويض مركز الكفر بمكة، وسحب البساط تدريجيا من تحت أقدام أهله، تمهيدا لاستئصال شأفة المشركين والكفار من ربوع جزيرة العرب قاطبة.
مع بزوغ فجر العاشر من رمضان ، السنة الثامنة للهجرة، غادر الجيش الإسلامى المدينة المنورة قاصدا مكة المكرمة، فى عشرة آلاف من الصحابة الكرام، بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن استخلف، أبا ذر الغفارى، على المدينة. وبعد ليالٍ عشر، دخل الرسول وأصحابه مكة، سلما، من أعلاها، وهو يردد قول ربه، عزوجل، بمستهل سورة الفتح: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا». وفور دخوله المسجد الحرام، أقبل صلى الله عليه وسلم إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت، ثم صلّى ركعتين، وكبّر فى نواحى الكعبة. وكانت فى يده قوس يزيح بها 360 صنما، كانت تحيط بالكعبة، مرددا قوله تعالى، بالآية الحادية والثمانين من سورة الإسراء: «وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا»، والآية التاسعة والأربعين من سورة سبأ: «قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد». ثم أمر مؤذنه، بلالا، أن يؤذن للصلاة من فوق الكعبة. وفى اليوم التالى، تنادى أهل مكة مترقبين صنيع الرسول بهم؛ فإذا به يقول لهم، مثلما قال أخوه يوسف، عليه وعلى نبينا أتم الصلاة والتسليم، لإخوته: «لا تثريب عليكم اليوم»، ويثلج صدورهم بمقولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». فما كان من رجالها ونسائها، إلا أن بايعوه على الإسلام، والسمع، والطاعة. وخطب المصطفى صلى الله عليه وسلم فى الناس «خطبة فتح مكة»، بين فيها بعض معالم الدين، وحرمة البلد الأمين.
بعدما أتم الله له الفتح المبين، أقام النبى الخاتم، فى مكة تسعة عشر يوما؛ وضح لأهلها خلالها معالم الإسلام وتعاليمه، وفقههم فيه، ورتب لهم شئونهم الإدارية والاجتماعية. كما أرسل عددا من المفارز إلى الحواضر المحيطة بمكة، لدعوة أهلها إلى الدخول فى الإسلام، بغير سفكٍ للدماء. وطيلة مدة مكوث النبى فى مكة، كان الهلع يفتك بأفئدة الأنصار، مخافة أن يبقى الرسول فى مسقط رأسه بجوار بيت الله الحرام، ولا يعود معهم إلى المدينة مجددا. لكنه صلى الله عليه وسلم طمأنهم قائلا: «معاذ الله؛ المحيا محياكم، والممات مماتكم».
علاوة على رغبته صلى الله عليه وسلم فى تعزيز وتشريف ديار الإسلام بضم مكة المكرمة وأجوارها إلى رحابها؛ أراد النبى الوفاء بعهده، عبر نصرة حلفائه من خزاعة؛ بعدما غدرت بهم قريش وحلفاؤها. ففى السنة السادسة من الهجرة النبوية، كان المسلمون قد عقدوا مع قريش «صلح الحديبية»، لمدة عشر سنين. وبعدها بعامين، هاجمت بنو بكر، بمعاونة قريش، قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، فقتلوا منهم نفرا. وبهذا نقضت قريش وحلفاؤها، الصلح، فهب الرسول لنصرة حلفائه من خزاعة، فكان الفتح المبين.
ثمة هدف استراتيجى حيوى لفتح مكة، يتمثل فى تعزيز حواضر الإسلام، وتحصينها وتمكينها؛ تمهيدا لاتخاذها قاعدة ومنطلقا لنشر الدين الحق فى سائر أصقاع المعمورة. فقبل ظهورالإسلام، عرفت جزيرة العرب ثلاثة مراكز ثقل حضارية وعقائدية أساسية. أولها، يثرب، التى شكلت المعقل الدينى والاقتصادى لتجمعات اليهود فى الجزيرة العربية. وثانيها، مكّة، التى مثلت، رغم احتضانها البيت الحرام، المثابة الدينية والاقتصادية للوثنية. بينما كانت نجران ثقلا روحيا واجتماعيا للمسيحية، كونها مقرا لكرسى أسقفى يخص أتباع مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح. وحتى يسود الإسلام جزيرة العرب، ويأمن معتنقوه، اقتضت الضرورة الاستراتيجية والدينية، تحييد تلك المراكز الحضارية المُغايرة. إن من خلال دعوتها وهدايتها للإسلام، أو معاهدتها على التعايش السلمى وحسن الجوار، أو عبر الاضطرار إلى كسر شوكتها، حال رفضها الإسلام والمعاهدة، وجنوحها لمناهضة الإسلام ومعاداة المسلمين.
عقب دحر المسلمين يهود خيبر فى السنة السابعة للهجرة، أتم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فى العام التالى مباشرة، فتحه الأعظم بمكة. ذلك الذى فقد الكفر، على أثره، أهم معاقله بجزيرة العرب. إذ تهافت الناس على الدخول فى دين الله أفواجا، وتحولت مكة إلى حصن منيع للتوحيد والهداية. حتى أنها لم تشهد أية ردة أو تمرد عقب وفاة النبى الخاتم، فى العام الحادى عشر. وفى السنة التاسعة للهجرة، طويت صفحة حاضرة نجران؛ على وقع الحوار البناء الشهير، الذى أجراه وفد منهم مكون من ستين رجلا، مع الرسول فى مسجده بالمدينة. فبعدما بايعته قياداتهم على التسليم، أرسل صلى الله عليه وسلم معهم، أبا عبيدة بن الجراح، أمين الأمة، ليفقههم فى الدين.
كان من شأن تلك الفتوحات الدينية والانتصارات التاريخية، أن هيأت الأجواء للمسلمين؛ من أجل بسط سيطرتهم، التامة والمطلقة، على الجزيرة العربية جمعاء؛ وتوطين الدين الحنيف فى أرجائها. الأمر الذى اعتبر إيذانا بعولمة الإسلام، وتمكين المسلمين من إرساء دعائم راسخة لدولة، مكتملة الأركان، ومترامية الأطراف.