نبدأ أولا بأسباب استبعاد نشوب الحرب العالمية «الثالثة»، انطلاقا من الصراعات الإقليمية فى الخليج والشرق الأوسط، والصراعات الدولية المتداخلة معها، كما يتوقع، أو يحذر، أو يتشاءم، أو يتمنى البعض فى منطقتنا البائسة، وهى التوقعات، أو التمنيات التى ارتفع منسوبها بعد قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يوم الثلاثاء الماضى بالانسحاب من الاتفاق النووى الدولى مع إيران.
وحين نخص منطقتنا بوجود هذه التوقعات أو التمنيات، فإن المعنى – بمفهوم المخالفة – هو أنه لا أحد فى أية منطقة أخرى فى العالم فى وارد الحرب العالمية الثالثة، ليس فقط لأنها لا تخدم أية مصلحة لأية قوة كبرى أو وسطى أو صغرى، ولكن أيضا لأن شروطها ليست قائمة من قريب أو بعيد.
ففى تجربة أو محنة الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت الأسباب هى صراعات بالأصالة – وليس بالوكالة ــ فيما بين الدول الأوروبية الكبرى، وفى المرة الأولى اشتركت الولايات المتحدة فى المراحل المتأخرة من الحرب، حفظا لمصالحها عبر الأطلنطى، وفى الثانية كانت المصالح الامريكية مهددة على مستوى العالم، خاصة بعد أن انتهزت اليابان «الاستعمارية الفاشية» فرصة هذه الحرب الكونية، لتصفية الوجود الأمريكى المنافس بقوة فى الباسيفيك وجنوب شرق آسيا.
وإذا كانت الأزمات الكبرى التى أوقفت العالم على شفا كارثة الحرب النووية طوال حقبة الصراع الايديولوجى بين الشرق والغرب والحرب الباردة قد مرت أو سويت دون اندلاع الحرب الكونية الثالثة، فهل يعقل أن يخوض العالم حربا ستتطور حتما إلى استخدام الأسلحة النووية من أجل حفنة عرب وعجم يخوضون فيما بينهم صراعات القرون الوسطى، ومن تلك الأزمات –لمن لا يتذكرون جيدا – أزمة الحرب الكورية، والحرب الفيتنامية، والحصار السوفيتى لبرلين الغربية، ثم بناء السور الفاصل بين شطرى العاصمة الألمانية، وأزمة الصواريخ النووية السوفيتية فى كوبا، وفى غضون ذلك كله أزمة إسقاط طائرة التجسس الأمريكية فوق الأراضى السوفيتية قبل ساعات من قمة جينيف بين الزعيم السوفيتى خروتشوف والرئيس الأمريكى دوايت آيزنهاور، مما أدى إلى إلغاء هذه القمة، وتزويد الصراع بين الشرق والغرب وقتذاك بوقود جديد.
بهذه الخلفية فى أذهاننا لابد – بأى مقياس عقلى وعلمى – أن نستبعد قيام حرب عالمية ثالثة بسبب الصراعات فى الخليج أو المشرق العربى، حتى وإن كانت إسرائيل طرفا مباشرا فيها، كما سنشرح بعد قليل. وبحسابات اللحظة الحاضرة، فإن روسيا – الطرف الثانى المفترض فى أية حرب عالمية جديدة – لا تريد ولا تستطيع خوض مثل هذه الحرب، فهى لاتريد لأن مصالحها الاساسية فى مجالها الحيوى ليست مهددة، بل إن وجودها ونفوذها فى كل من سوريا وإيران ليسا مهددين، كما أنها فى واقع الأمر لا تتحدى مصلحة حيوية أمريكية أو غربية بهذا الوجود، الذى يستطيع الأمريكيون والأوروبيون تحمله، وليس من دليل على ذلك أقوى من أن هذا الوجود العسكرى الروسى لم يمنع، ولم يقصد به أن يمنع الضربات الأمريكية، وتلك الإسرائيلية المتوالية لأهداف منتقاة على الأراضى السورية، سواء أكانت أهدافا سورية خالصة، أم كانت أهدافا إيرانية هناك.
ومن المنظور الاستراتيجى المعزز بالسوابق التاريخية، فإن روسيا هى فى نهاية المطاف قوة برية، وقد خاضت كل حروبها الكبرى (بعد حقبة التوسع الأسيوى) على اليابس الأوروبى، بما فى ذلك الحربين العالميتين، وباستثناء قاعدة طرسوس السورية لا يملك الروس قواعد بحرية يعتد بها، وليس لديهم أساطيل تستطيع خوض معارك فى جميع بحار ومحيطات العالم مثل الولايات المتحدة، بل ومثل بريطانيا التى هزمت الأرجنتين فى أقصى جنوب المحيط الأطلنطى فى حرب فوكلاند، وعليه فإن نوع الحرب العالمية التى تستطيع روسيا خوضها هى حرب الصواريخ، وهنا أيضا فإن روسيا لا تملك ميزة التفوق الكاسح أو حتى النسبى، فلماذا إذن تغامر بالتورط فى صراع عالمى مدمر، حتى وإن كان رئيسها اسمه فلاديمير بوتين، ومن صفاته الطموح والاعتزاز بالقومية الروسية، والانتقام من الإهانات التى ارتكبت فى حق بلاده، سيما وأنه يكفى لتحقيق كل ذلك إعادة بسط الهيمنة على مكونات الاتحاد السوفيتى السابق، وإذلال الدولة التى تتمرد على هذه الهيمنة، مثلما حدث مع أوكرانيا، ومن قبلها جورجيا، وبالمناسبة فلو كان الأمريكيون والأوربيون فى وارد الحرب ضد روسيا لكان الاحتلال الروسى لشبه جزيرة القرم «الأوكرانية»، ولكان التدخل العسكرى الروسى فى جورجيا أدعى لذلك من الصراع حول إيران، أو سوريا.
إذن فالمرجح بل المؤكد أن صراعات الشرق الأوسط والخليج الحالية ستبقى فى نطاقها الإقليمى المحدود، وقد يتسع نطاقها أو ترتفع وتيرتها بضربة إسرائيلية منفردة، أو بالمشاركة مع الولايات المتحدة للمنشآت النووية الإيرانية، وبرد إيرانى انتقامى من إسرائيل، أو ضد أهداف أمريكية فى الخليج والعراق، وقد يشارك حزب الله فى الانتقام من إسرائيل، لكنها أبدا لن تتطور إلى حرب عالمية، لأنه من الخطأ افتراض أن روسيا –التى شرحنا خصائصها وسوابقها وحساباتها الاستراتيجية قبل لحظات –سوف تهب لنجدة إيران، حتى وإن اشتملت الخطة الأمريكية على تدخل برى لتغيير النظام الايرانى، وهو أمر مستبعد كلية لأسباب ذكرناها فى مقال الأسبوع الماضى، وما ينطبق على روسيا ينطبق على الصين، إذ لا مصلحة ولا إرادة، ولا قدرة لدى بكين على إشعال صراع عالمى من أجل انفاذ البرنامج النووى أو النظام الايرانيين.
وما دام الصراع فى الشرق الأوسط والخليج سوف يبقى إقليميا، وإن اتسع نطاقه، فإن كثيرا من التطورات المقبلة سوف يتوقف على السلوك الإسرائيلى، وقد قلنا فى مناسبات سابقة إن إسرائيل لا تنقصها الإرادة، ولا تعوزها القدرة على ضرب المنشآت النووية الايرانية، ومن المؤكد أن انفتاح السعودية والامارات والبحرين عليها وفر لها ميزة استراتيجية ضخمة فى مواجهة ايران، لكن سوف يتحتم على الإسرائيليين أولا التأكد من عدم جسامة الرد الانتقامى الإيرانى المباشر، أو من الأراضى السورية، ومن حزب الله اللبنانى، وتلك مهمة بالغة الصعوبة، وقد زاد من صعوبتها أخيرا ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى لبنان، إذ غدا حزب الله وحلفاؤه هم أصحاب الكفة العليا فى القرار السياسى اللبنانى، فضلا عن أنه صاحب أقوى سلاح بين الفرقاء اللبنانيين.
فى الوقت نفسه فإن العالم كله ممثلا فى الاتحاد الأوروبى، وبريطانيا وروسيا والصين، والأمم المتحدة يعارض علنا وبقوة الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى مع إيران، ويطالب الإيرانيين بعدم الانسحاب منه، وكما سمع الجميع فإن الرئيس الأمريكى نفسه يدعو للتفاوض على اتفاق جديد يسد ما يراه من ثغرات فى الاتفاق الحالى، ويمتد ليحظر تطوير صواريخ ايرانية بعيدة المدى، ويحد من التدخلات الايرانية فى الخليج والمشرق العربى، وهنا يأمل الرئيس الأمريكى أن يؤدى إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على ايران، مقرونا بالتهديدات العسكرية إلى تليين موقف الايرانيين، وذلك فى غضون ستة أشهر حين تبدأ معاناة الاقتصاد الايرانى من العقوبات، وحين تتضاءل قدرة طهران على امداد حلفائها فى سوريا واليمن ولبنان (والعراق) بالمساعدات المالية والعسكرية بسبب هذه العقوبات.
وبما أن الإسرائيليين لا يشغلهم سوى أمنهم، وليسوا مستعدين أبدا للحرب نيابة عن الغير، خاصة حلفاءهم الجدد فى الخليج، فليس هناك مبرر للمخاطرة بضرب إيران، والتعرض للردود الانتقامية المذكورة آنفا، قبل أن يتأكد لها بنسبة مائة فى المائة أن الرهان الأمريكى بنجاعة العقوبات الاقتصادية، والرهان العالمى (أوروبى /روسى / صينى/ أمم متحدة) على صمود الاتفاق الحالى، والعمل على استكماله قد فشلا نهائيا، والى الأبد.. فعندها يكون لكل حادث حديث، ويكفى الآن خوض حرب ردع محدودة لإيران فى سوريا.
خلاصة القول إنه لا حرب عالمية أبدا بسبب الصراع الإيرانى /الإسرائيلى، أو الصراع الإيرانى الأمريكى، أو الصراع الإيرانى الخليجى، كما أن الحرب الإقليمية واسعة النطاق بين إسرائيل والخليجيين فى جانب وإيران وحلفائها فى الجانب الآخر لن تنشب غدا .. أو فى غضون أشهر.. إذا بقيت الحسابات الحالية على ما هى عليه، ولم توجه ايران ضربة انتقامية لأهداف إسرائيلية داخلية ردا على الضربات الإسرائيلية المتوالية لقواتها فى سوريا، وهنا .. فى هذه النقطة تحديدا تتعاظم أهمية الدور الروسى، ليس للتدخل العسكرى ضد إسرائيل مناصرة لايران، ولكن فى التوصل إلى تفاهم سياسى غير مباشر بين الجانبين، يحدد لكل منهما خطوطا حمراء لا ينبغى تجاوزها.