كتب أحدنا مستشرفا المرحلة القادمة فى العلاقات الدولية وفى إقليمنا فقال إنها ستكون فى الغالب مرحلة مملة. فاجأنى ما كتبه الزميل عن الملل وقد صار صفة من صفات السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، ففى الأسبوع نفسه علمت أن فى الصين جمعيات أو بالأصح تجمعات شبابية اتخذت نظرية العلاقات الدولية موضوعا للتسلية الراقية وقضاء فسحات وقت الفراغ بين الانشغالات الأكاديمية. ومع ذلك أتفهم صدور هذه الصفة للحال المتوقعة للعلاقات الدولية فى الأسابيع القادمة فهناك من التطورات ما يمكن أن يدفع بعض المراقبين والدارسين لتبنى هذا الاعتقاد. من هذه التطورات على سبيل المثال:
أولا: دخلت الولايات المتحدة بالفعل إلى فترة يتصف فيها أداء السلطة، والدولة عموما، بصفة البطة العرجاء. لا أعتمد على صور أخيرة للرئيس الأمريكى وأدائه خلال إلقائه بتصريحات للصحفيين أو أثناء مقابلاته المسجلة على الهواء مباشرة لأتفق مع نظرية البطة العرجاء. الرئيس بالفعل يتحرك كرجل أكبر سنا تتباطأ خطواته وتتعثر فى فمه الكلمات، وهى الصعوبات التى تضيف بالسلب إلى حقيقة تاريخية تؤكد أن الرئيس الأمريكى لا يكون فى العام الأخير من حكمه فى المستوى اللائق أو المعتاد بسبب الحذر الشديد الذى يتوخاه تفاديا للوقوع فى زلات لسان أو أخطاء تكلفه الفشل فى التجديد لولاية ثانية. توقع تكرار هذه الظاهرة فى الأيام القادمة ربما أوحى لمتابعى السياسة الدولية وبوجه خاص السياسة الخارجية الأمريكية بأننا إزاء فترة تتغلب فيها أسباب الملل على أسباب الاستمتاع والتلهى.
ثانيا: تلكأت الحرب الأوكرانية فى تحقيق نتائج حاسمة. بمعنى آخر، فقدت الحرب بريقها بعد أن هدأ أوارها وانكشفت أسرارها وبخاصة أسرار نشوبها، وبعد أن خفت وميض المفارقة المثيرة التى صنفتها حربا بين دولة عظمى ودولة صغيرة. المسئول عن هذه المفارقة هو الإصرار الأمريكى على أن يبقى هيكل النظام الدولى الذى أفرزته الحرب العالمية الثانية على حاله. كانت روسيا فى ظله دولة ترفل فى مزايا الدولة العظمى، ثم فقدت مع الوقت مكانتها كقطب ثانٍ ولم تفقد مكانها فى مجلس الأمن وكثير غيره من مؤسسات النظام وحافظت الولايات المتحدة عليها خصما وعدوا على مستوى لا يهدد هيمنتها بل يضيف لها، وسمحت لها بالاحتفاظ بثروتها من القنابل النووية. كان المتوقع، والمخطط له خلال سنوات الإعداد لهذه الحرب، أن تتغلب أوكرانيا فى وقت قصير اعتمادا على دعم حلف الأطلسى. كلاهما، روسيا وأوكرانيا، تلكأتا فأضاعتا وهج الفرصة. صارت الحرب خبرا روتينيا رغم جهود خارقة من جانب القوة الإعلامية الغربية ومن جانب مظاهرات الدعم من جانب حكومات دول الاتحاد الأوروبى، هذه الحكومات التى راح أغلبها يرهن الحاضر والمستقبل معا على آمال لم تتحقق.
حدث مع هذه الحرب ما يحدث عادة مع حروب تحولت إلى روتين. صارت مملة، ولدفع الملل يشغل الناس وقتهم بالبحث فى أسباب وظروف نشوبها. عدنا نسمع عن السيدة أنجيلا ميركل التى وقفت ضد حملة الولايات المتحدة ودعوتها فى عام 2008 وبالتحديد فى مدينة بوخارست لضم أوكرانيا للناتو وهى الحملة التى وصفتها ميركل أنها كانت بمثابة إعلان حرب على روسيا. نسمع أيضا أن قيادات عسكرية أمريكية حذرت فى ذلك الحين من مغبة الاستمرار فى سلوك هذا الطريق. تشاء الظروف أن يأتى جو بايدن رئيسا لأمريكا وهو المعروف دائما بتعاطفه مع أوكرانيا.
ثالثا: قبل أيام قليلة كان الرئيس الفرنسى ماكرون يجول الصين برفقة رئيسها داعيا إلى تعاون روسى أوروبى بينما كانت رئيسة المفوضية الأوروبية تهدد من بكين حكومة الصين بعقوبات ومقاطعة لو ثبت أنها تدعم روسيا فى حربها ضد أوكرانيا. يعنى هذا أن الرئيس الحالى لأوروبا والرئيسة الحالية للمفوضية يعلنان موقفين متناقضين تجاه الصين. لم يكن فى الأمر توزيع أدوار متعمد بل كان كما اتضح لاحقا صورة متكررة عبر التاريخ عن أوروبا غير القابلة للوحدة، أوروبا المنقسمة دائما على ذاتها. بمعنى آخر، لا جديد يمكن توقعه من أوروبا بل التكرار الممل لسياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء. ما أشبه ماكرون بشارل ديجول وما أشبه العلاقات البريطانية الأوروبية الراهنة بعلاقاتهما فى سالف الأزمنة وما أشبه طموحات روسيا البوتينية بروسيا القيصرية وإن اختلفت الأيام والظروف.
رابعا: لم يكن النظام الدولى، وأقصد مجمل تفاعلات الدول وأدائها وأداء مؤسسات النظام، لم يكن فى أى مرحلة على هذه الدرجة من الضعف. الدولة القائد مشتتة الانتباه والتركيز، وهى فوق هذا تبدو للآخرين منهكة القوى. تعددت فى نظر خصومها مظاهر التهديد لسلامتها، من هذه المظاهر على سبيل المثال وليس الحصر، مسيرة الدولار الراهنة ومستقبله، منها أيضا ظواهر عديدة تشير إلى تصدع اجتماعى كانتشار جرائم القتل الجماعى والفساد الضارب فى إدارات الدولة، ومنها الأزمة المالية وتجاوز الدين العام لكل الحدود المقبولة، ومنها احتمال العودة للوقوع مرة أخرى فى براثن حكم يقوده دونالد ترامب والتهديد الذى يمثله هذا الاحتمال لاستمرار الديمقراطية والتوازن بين السلطات منهاجا وعقيدة. أضف إلى هذه المظاهر حقيقة صارت ماثلة أمام معظم حكام العالم النامى وهى أن الولايات المتحدة لم تكن أمينة على مسئولياتها تجاه شعوب هذه الدول، إذ مارست التخريب بل والتدمير بحرية. أعلم أن كثيرين من قادة العالم النامى صاروا يتذاكرون فى مؤتمراتهم وقائع ومآسٍ تسببت فيها سياسات أمريكية منها ما تضررت منه ضررا جسيما دول مثل العراق وفيتنام وشيلى وفنزويلا وفلسطين.
خامسا: الزيادة الكبيرة فى معدلات الهجرة الجماعية كعلامة من أهم علامات ضعف النظام الدولى. لا يختلف اثنان بين خبراء العلاقات الدولية على الاعتراف بأن ما نشهده هذه الأيام من زيادات مكثفة وكبيرة فى عدد وأنواع الهجرات الجماعية إنما دليل واقعى على انهيار فى فعالية القوى القائدة فى النظام الدولى الراهن. يشهد التاريخ على زيادات مفاجئة فى الهجرة الجماعية خلال أو فى أعقاب كوارث طبيعية كأزمات المناخ أو إنسانية كالحروب، يتصادف فى الوقت نفسه تقلص إرادات القوى الرئيسة فى النظام لضعف فى القوة الذاتية أو لفوضى فى العلاقات الدولية والإقليمية. لا جدال فى أن الأوضاع الدولية الراهنة فى مجملها تقدم النموذج الأمثل على العلاقة المتبادلة فى زمن الأزمات والكوارث الطبيعية بين موجات الهجرة المكثفة من دول الشرق الأوسط وأفريقيا وتدهور العلاقات بين فرنسا وبريطانيا وبين إيطاليا وفرنسا وبين عديد دول شرق ووسط أوروبا، وعلى الناحية الأخرى الموجات الجديدة المتوقعة خلال الشهور القادمة من هجرة شعوب أمريكا الجنوبية إلى الولايات المتحدة. لا جديد هنا فى نظر خبراء السياسة الدولية عن علاقات الهجرة بحال النظام الدولى السائد، معذورون إن اشتكوا من الملل.
• • •
ولا جديد فى أن صورة أمريكا اهتزت فى نظر بقية دول العالم، ولا جديد فى أن أوروبا على حالها لا تتغير، ولا جديد فى أن اليابان دخلت مؤخرا مرحلة ركود اقتصادى، ولا جديد فى أن الصين صارت فى حاجة إلى استثمارات أجنبية، ولا جديد فى أن العلاقات بين أمريكا والصين فى أسوأ حالاتها ومستمرة فى التدهور سواء تولى ترامب الحكم أو استمر بايدن رئيسا، ولا جديد فى أن النظام الإقليمى العربى يبدأ مرحلة اختيار بين أن يعتزل لصالح نظام أرحب فى إمكاناته وتحدياته وبين أن ينتفض ويعيد ترتيب كافة أوراقه وأرصدته القومية والقطرية على حد سواء سعيا لبعث جديد.