فيرارى يجرها جحش - عماد عبداللطيف - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 4:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فيرارى يجرها جحش

نشر فى : الثلاثاء 10 يوليه 2018 - 12:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 10 يوليه 2018 - 12:30 م

الفيرارى سيارة رياضية فاخرة، تتجاوز سرعتها 350 كم، ويصل سعرها إلى بضعة ملايين من الجنيهات. الفيرارى لا يجرها الحمار، ولا تأكل البرسيم، لكنها فى مصر تفعل ذلك. ففى وسط الطريق، تسير عربة كارو، يجرها جحش، ويلتصق بظهرها لوجو الفيرارى الشهير، وإلى جواره لافتة كارتونية صغيرة، مكتوب عليها «ما تبصليش بعين رديه، شوف اللى ادفع فيا».
تقف الفيرارى التى تمشى بسرعة 12 كم على يمين الطريق الترابى. وينزل عم إسماعيل العربجى؛ ليشترى خمس سجاير فرط، من دكان خشبى صغير، يحتل قطعة من الرصيف، وينوء تحت لافتة مكتوب عليها «هايبر ماركت الملوك»، حجم اللافتة يماثل حجم المحل نفسه، وتنيرها عشرات اللمبات الفلورسنت التى تأخذ أنوارها مباشرة من عمود إنارة مجاور. فى منتصف المحل تجلس الست أم مجدى على كرسى صغير مرتفع، وفى متناول يدها أرفف المحل الصغيرة التى يوجد فيها عدد محدود من قطع الصابون، وأكياس الكاراتيه، والحلوى الرخيصة. وأمام الدكان الصغير ثلاجة متوسطة الحجم، وسبيل مياه صغير.
بعد أن يدخن سيجارته حتى آخر نفس، ويشرب من السبيل المجاور، يتجه العربجى إلى الفيرارى ذات العجلات الخشبية، يهرش شعر رأسه المتعرق الطويل، ثم يضع يده فى جيب جلبابه، ويجمع الجنيهات القليلة التى كسبها هذا الصباح، ويقرر أنه لا يستطيع أن يتحمل شعره أكثر من ذلك، فيعبر الشارع ليقص شعره فى محل حلاقة بكرسى واحد، يحمل لافتة ضخمة تقول «سنتر العظماء للعناية بالرجال»، تحتها عبارة بالإنجليزية مكتوب عليها «All wat mens need». لم تستوقفنى الأخطاء اللغوية الموجودة فى اللافتة الإنجليزية، قدر ما استوقفنى معناها، الذى يعدُ بتلبية كل متطلبات الرجال. وأنا أعرف يقينا أن الأسطى جمال الحلاق، الرجل الطيب العجوز، لم يعرف طوال حياته إلا قص الشعر والذقن، فالرجل لم يشأ من زمان أن يساير موضة السيشوار، ولا أجهزة البخار، ولا التدليك، ولا غيرها. وظل سؤاله الوحيد الموجه لزبائنه: شعر، ولا ذقن؟ ربط صاحب لافتة الفيرارى حماره فى عمود إنارة طويل، تراكمتْ عليه لافتات دعاية انتخابية، يغطى بعضها الآخر، طبقة فوق طبقة، لكننى أفلحتُ فى تمييز ثلاث كلمات متكررة «لكم، ومنكم، وبكم».
كلما سرتُ فى شوارع المحروسة استوقفنى الاستعمال الخاص للغة، والذى يجنح إلى مجافاة الواقع، والادعاء، والمبالغة. ولا يقتصر هذا الاستعمال على أسماء المحال، أو وضع لوجو سيارات فخمة على سيارات شعبية، أو حتى عربة كارو، بل يتعداه إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير، وينتشر فى كل مستويات التواصل العمومى تقريبا. ويمكن فقط النظر إلى مبان تحمل لافتة مدرسة، أو مستشفى، أو حزب، فى حين أنها ليست أفضل حالا من ناحية المطابقة بين الاسم وحقيقة المسمى، من محل الحلاقة الصغير الذى يحمل اسم «سنتر العظماء».
***
وأنا أنظر إلى الحمار الواقف بجوار لافتات الانتخابات، فكرتُ فى أسباب ظاهرة افتقاد الأسماء لدلالاتها فى مجتمعنا، ووصلتُ إلى عدة تفسيرات:

التفسير الأول: نظرية الببغاء
وتفترض أن مستعمل اللغة لا يعرف معانى الكلمات التى يستعملها، ويرددها دون وعى بدلالاتها. فلا فرق لدى الست أم مجدى بين تسمية مينى ماركت، وماركت، وسوبر ماركت، وهايبر ماركت. ومن هذه الزاوية، فإن صاحب العربة الكارو ربما لا يعرف أصلا ما هى سيارة الفيرارى، وربما لم ير واحدة منها حقيقة طول حياته، وإن رآها فلن يتعرف عليها، لكنه رأى لوجو الحصان الخاص بها، وذكره الحصان بجحشه الصبور، فقرر أن يضع لوجو الفيرارى فوق عربة الكارو.

التفسير الثانى: «قل مثلهم»
تحكى النكتة المصرية أن عجوزا ذهب إلى طبيبه مغموما، وأخبره أن زملاءه بالمعاش يتحدثون دوما عن بطولات وفتوحات يقومون بها يوميا، وهم فى نفس عمره، فى حين يعانى هو من صعوبة هائلة فى صعود درجتى سلم ليصل إلى شقته الأرضية. ابتسم الطبيب، وربت على كتفه، وقال له: «قل مثلهم». تكاد تلخص هذه النكتة حال بعض مستعملى اللغة مع تسميات شتى؛ فحين اختارتْ صاحبة الدكان الصغير تسمية هايبر ماركت، لم تكن تفعل سوى تقليد دكان آخر، وضع هو نفسه لافتة هايبر ماركت، وهلم جرا. وعلى خلاف التفسير الأول، فإن من «يقول مثلهم»، يعرف أنه يستعمل تعبيرا غير دقيق، ويقول ما يخالف الواقع. فالسيدة أم مجدى تعرف أن الهايبر ماركت هو مكان شديد الضخامة، فيه كم هائل من البضائع، وأعداد ضخمة من المشترين، لكنها تطلق على دكانها الصغير هذه التسمية؛ لأن الآخرين يفعلون ذلك، لا أكثر. وعلى النحو نفسه، يستعمل الناس كلمات مثل ديمقراطية، وحرية، ونزاهة، ووطنية فى تسمية ممارسات وأفعال، لا يربط بينها وبين الديمقراطية والحرية النزاهة والوطنية أكثر مما يربط دكان أم مجدى بالهايبر ماركت. وفى بعض الحالات توجد مؤسسات كاملة تساعد فى شراء لافتات ضخمة جميلة. وكما يُدرك الطبيب والعجوز أنه لا شىء سيحدث خارج اللغة، يُدرك أصحاب هذه اللافتات الجميلة، والمتعاملون معها، أنه لا شىء سيحدث خارج اللغة، وأن المسألة هى مجرد منح للافتة، أو منح صلاحية وضعها أمام الناس.
***
يرتبط هذا الاستعمال المزيف للغة بهدف محدد هو تعمد إخفاء الواقع الحقيقى، وخلق واقع مغاير، لا وجود له إلا داخل اللغة. والنتيجة المتوقعة هى أن تفقد المفردات معانيها بفعل المبالغة والكذب، لتشير إلى دلالات مشوهة. ومن ثم، يفقد الناس ثقتهم بالكلمات، وأصحابها، وتتسع فجوة المصداقية لتبتلع أى شعور بالثقة.
حين بدأتُ التفكير فى تفسيرات أخرى، وتأمل أثر إساءة استعمال اللغة فى مستقبل المجتمع، سمعتُ نهيقا عاليا، ورأيتُ سائق العربة الفيرارى، يفك رباط جحشه، مخلفا وراءه فضلات حيوانية ضخمة، تغطى قاعدة عمود الإنارة الطويل. ظللتُ أنظر إلى الكارو، وهى تتوارى فى عتمة الغروب، وعلى البُعد، لم يعُد ظاهرا منها، سوى علامة الفيرارى المضيئة.
أستاذ مساعد تحليل الخطاب
الاقتباس
يرتبط هذا الاستعمال المزيف للغة بهدف محدد هو تعمد إخفاء الواقع الحقيقى، وخلق واقع مغاير، لا وجود له إلا داخل اللغة. والنتيجة المتوقعة هى أن تفقد المفردات معانيها بفعل المبالغة والكذب، لتشير إلى دلالات مشوهة. ومن ثم، يفقد الناس ثقتهم بالكلمات، وأصحابها، وتتسع فجوة المصداقية لتبتلع أى شعور بالثقة.

عماد عبداللطيف أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب
التعليقات