الاستعمار الجديد فى حوض النيل - عبد العظيم حماد - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 10:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاستعمار الجديد فى حوض النيل

نشر فى : الإثنين 10 أغسطس 2009 - 9:45 ص | آخر تحديث : الإثنين 10 أغسطس 2009 - 11:32 ص

استخدمت مجلة دير شبيجل الألمانية وصف الاستعمار الجديد فى تقرير أخير لها حول التدافع الأجنبى لشراء الأراضى الزراعية فى أفريقيا على وجه الخصوص، وفى آسيا على نطاق أضيق، ولو لم تستخدم دير شبيجل هذا الوصف بصريح العبارة فى العنوان الرئيسى للتقرير المنشور فى عدد 30/7/2009، لكان هناك تخوف من اتهامنا بالمبالغة، وبعدم الانعتاق من أفكار الخمسينيات والستينيات فى القرن الماضى، أو الوقوع فى براثن مرض الوسواس القهرى من العولمة، ومتطلباتها.

كانت المناسبة التى دفعت المجلة الألمانية للاهتمام بالظاهرة هى مؤتمر عقد مؤخرا بفندق ماريوت بنيويورك ــ هو الأول من نوعه ــ للمستثمرين فى الأراضى الزراعية، ومن خلال أعمال المؤتمر رصدت المؤشرات الخطيرة التالية:

أولا: سوف يبلغ عدد سكان العالم فى 2050 تسعة مليارات ومائة مليون نسمة.

ثانيا: سوف يرتفع الطلب على الغذاء خلال السنوات العشرين القادمة بمقدار النصف على الأقل.

ثالثا: يضمن الاستثمار فى زراعة الغذاء 30٪ عائدا سنويا.

ولأن المساحات الزراعية القابلة للتداول بالبيع والشراء نادرة فى أوروبا وأمريكا الشمالية، وفى الوقت نفسه فهى غالية الثمن جدا، إن وجدت، فإن أغلب المستثمرين فى الزراعة بالتملك أو التأجير يتجهون إلى القارة الأفريقية حيث ينخفض السعر إلى الخُمس تقريبا، وحيث يمكن مضاعفة الغلة الحالية أربع أو خمس مرات بإدخال التكنولوجيا، والمخصبات، وتأتى آسيا بعد أفريقيا، خاصة فى الجمهوريات السوفييتية سابقا، فى حين تتجه الاستثمارات الروسية تحديدا إلى أوكرانيا، علما بأن رءوس الأموال الأوروبية والأمريكية، والعربية «النفطية» تفضل التملك على التأجير خوفا من تأثير عدم الاستقرار السياسى والفساد الإدارى على عقود الإيجار، وكذلك لتأمين وسائل قانونية، وغير قانونية أحيانا لحراسة الممتلكات والأعمال وإدارتها، كذلك ضبط العلاقات مع المجتمعات المحلية.

ليكن معلوما قبل أن ننتقل إلى رصد تطبيقات الظاهرة فى حوض النيل وآثارها المؤكدة علينا فى مصر أننا لا نتحدث عن مؤامرة، ولكن عن تطوير اقتصادى أفرزته عوامل موضوعية، فى هذه الحقبة من تطور الاقتصاد العالمى والعلاقات الدولية، وليكن معلوما أن دولا وشركات غير أوروبية وأمريكية قد دخلت هذا السباق، ومنها مصر التى تعاقدت على زراعة القمح فى مساحة 840 ألف هكتار فى أوغندا، والسعودية التى اشترت مساحات شاسعة فى إثيوبيا لزراعتها أرزا، واحتفلت مؤخرا باستقبال أول شحنة من إنتاج مزارعها الإثيوبية من الأرز بحضور الملك عبدالله بن عبدالعزيز شخصيا، لكن هذا شىء، والانتباه منذ الآن لمخاطر الظاهرة وتداعياتها المقبلة على كل الأصعدة شىء آخر.

وبداية؛ فإن الاستعمار القديم نفسه بدأ واستشرى، واستمر قرونا بفعل عوامل موضوعية فى حقبة من تطور الاقتصاد العالمى والعلاقات الدولية، وعليه فلا يكفى القول بالعوامل الموضوعية لاعتبار الظاهرة إيجابية، وثانيا فإن الظاهرة التى تبدو إيجابية فى بدايتها سرعان ما تتمخض عنها نتائج سلبية فى مجالات عديدة، وثالثا لا معنى للعقل الإنسانى إن هو لم يتعلم من التجارب السابقة.

صحيح أن الحكومات «الوطنية» هى أول من يرحب حاليا بتدفق الاستثمارات الأجنبية لشراء الأراضى الزراعية بغرض التنمية، وسد الحاجة المحلية للغذاء والتكنولوجيا، وزيادة الموارد عموما، ولكن الصحيح أيضا أن الآثار السلبية على المجتمعات المحلية لن تستغرق طويلا حتى تبدأ فى الظهور ويخشى أن تصبح مدمرة لهذه المجتمعات بعد أن ارتفعت نسبة الأراضى الزراعية المعروضة لهذا النوع من الاستثمارات إلى 30٪ حسب تقدير كلاوس دينينجر الخبير المختص بالبنك الدولى، الذى رصد قفزة ضخمة فى الطلب على هذه الأراضى فى عام 2008، وحسب تعبيره فإن دولة مثل موزمبيق، حجم الطلب الأجنبى على تملك أراضٍ زراعية بها يصل إلى ضعف الأرض المزروعة حاليا فيها، ما دفع الحكومة إلى تخصيص مساحة قدرها 4 ملايين هكتار للمستثمرين الذين يمثل الأجانب نصفهم تقريبا.

أما تلك الآثار السلبية المتوقع ظهورها عاجلا فتتمثل فى التدمير المحتمل قريبا للقطاع الزراعى التقليدى، بما إن نصف مزارعى أفريقيا هم من صغار الملاك، وفى مصادرتها حقوق الأجيال المقبلة فى تلك الدول فى أراضيها، وفى الاستهلاك غير المنضبط لموارد التربة، والمياه، والأيدى العاملة، غير أن أم هذه الأخطار هى عدم تقيد المستثمر الأجنبى بأى قوانين أو ضوابط حقيقية بسبب الفساد السياسى، ما يجعل «الدولة الأفريقية المعنية» قادرة على تصدير الغذاء فى وقت يعانى فيه مواطنوها الجوع، ولذا فإنه عندما «يصبح الغذاء نادرا فإن المستثمر الأجنبى يفضل التعامل مع دولة ضعيفة» طبقا لاعتراف فيليب هايلبيرج رجل الأعمال الأمريكى.

وهذا بالضبط هو جوهر الفكرة الاستعمارية، أو لنقل إن الاستعمار القديم تخلق بهذه الطريقة تحت شعار «العلم يتبع التجارة».

على أى حال لنعد إلى ما يهمنا فى مصر أكثر من أى شىء آخر، فالسباق على شراء أراضٍ زراعية فى جنوب السودان على قدم وساق، وكذلك فى غرب كينيا أى فى ؟؟؟؟؟ الذى يصب فى بحيرة فيكتوريا أحد أهم منابع النيل الأبيض، وكذلك الحال فى أوغندا، والبقية تأتى.. والمعنى أننا أمام رءوس أموال ضخمة، لديها الخبرات الإدارية والتنظيمية، وفى حوزتها التكنولوجيا المتقدمة، وكذلك وراءها وأمامها طلب عالمى متزايد على الغذاء والمنتجات الزراعية.. وهى فى الوقت نفسه مسلحة بالعوامل الموضوعية التى سبقت الإشارة إليها، وكل ذلك مؤداه فى حوض النيل مزيد وربما جديد من الضغوط على موارد مصر المائية وعلى خططها المستقبلية لزيادة موارد النيل، فى المرحلة الأولى، ثم إن ترنح مصالح اقتصادية بهذا الحجم وهذه الأهمية لدول كبرى فى جنوب مصر وحوض النيل، مع احتمال قيام تحالفات فيما بين هذه المصالح تفضى إلى تحالفات سياسية دولية.. كل ذلك يمثل تحديا جديدا من نوعه تقريبا للأمن القومى المصرى، لذا من الواجب الشروع فورا فى وضع استراتيجيات للتحرك متعدد الجبهات ثنائيا وإقليميا، وعلى مستوى المنظمات القارية والدولية لإيجاد وعى بالظاهرة، وآثارها المحتملة، ولوضع آليات دبلوماسية وقائية لتفادى الأخطار، والمنازعات، والتهديدات، ولتنشيط منظمات أهلية وروابط نقابية محلية وإقليمية ودولية لموازنة هذه المصالح الضخمة لأن الحكومات لن تستطيع المواجهة وحدها إذا لزم الأمر.

عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.